08-يونيو-2020

الروائية حنان جنّان

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


حنان جنّان روائية وأكاديمية من تونس. نشرت روايتين هما: "كتارسيس" سنة 2015 (تحصلت على جائزة الكومار للاكتشاف سنة 2016) و"حَبْ المْلوك" سنة 2019.


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

الوحدة والأحلام. كنت بنتًا وحيدة عاشقة للخيال، أحاول بناء عالم مختلف عن ذاك الذي أعيشه. عشقت الإذاعة أكثر من التلفزة لأني شعرت أنها منحتني فرصة أكبر للتخيّل. وصادف أن سمعت مرّة في الإذعة الوطنية في الثمانينات برنامجًا بعنوان "مع الأدباء الناشئين" يقدمه الأستاذ منجي الشملي والأستاذة هند عزوز فأدمنتُه. وكم كانت فرحتي عظيمة حين اقترح علينا أستاذنا في مادّة العربية آنذاك مجموعة قصصيّة عنوانها "في الدرب الطويل" لدراستها في حصة المطالعة، عندما اكتشفت أن كاتبتها هي الأستاذة هند عزوز التي تجعلني أسافر أسبوعيًا عبر صوتها العذب وهي تقرأ نصوصًا لأدباء ناشئين.

أتذكر جيدًا أن تحليلي لتلك المجموعة القصصية أدهش أستاذي لأنه لمس فيه خيالًا خصبًا تجاوز مجرّد تحليل تلميذة لنص أدبي. فمدّني بكتب كثيرة من مكتبته الخاصة، وطلب مني أن أشترك في المكتبة العموميّة بالمدينة. ومن يومها سقطت في غواية الكتاب بصورة عامّة والرواية بصورة خاصّة لأني اكتشفت أنها الأقدر من بين كل الفنون على منحي لذة التخيّل ومتعة بناء عالم خاص بي وحدي. عبر الكتب سافرت إلى مدن كثيرة، وعايشت حضارات متنوّعة وأحببت شخصيات وكرهت أخرى... عالم الكتب بالنسبة لي هو عالم الحريّة والخيال.

  • ما هو الكتاب، أو الكتب، الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

سأتحدث عن فترة المراهقة لأنه يسهل عليّ حصر هذه الكتب. أما الآن فكل كتاب جديد أقرأه يؤثر في حياتي بشكل أو بآخر. بل إن هناك كتبًا أعيد قراءتها بعد سنوات فيتغيّر تأثيرها في حياتي، لعلّ آخرها قواعد العشق الأربعون لأليف شافاك، فقد أربكتني هذه الرواية. أعود إلى سنوات شبابي الأولى: هي ثلاث روايات: "الشحاذ" و"ثرثرة فوق النيل" لنجيب محفوظ و"موسم الهجرة إلى الشمال" للطيب صالح.

نجيب محفوظ قرأت له أول رواية "خان الخليلي" وأنا في سن الثالثة عشر، فكانت الدهشة لأنه أدخلني عوالم جديدة ومختلفة: تفاصيل أحياء القاهرة في الأربعينيات (حي السكاكيني وخان الخليلي وحلوان...) وقت الحرب العالمية الثانية، وبداية اندحار قوات المحور بعد معركة العلمين في مصر، والدعاية السياسية الساذجة لهتلر باعتباره مخلص المصريين من نير البريطانيين. أتذكر إحدى شخصيات الرواية (المعلم نونو أعتقد) يروي أنه رأى في المنام شيخًا جليلًا يسلم هتلر سيف الإسلام.

كنت أقرأ بذهول حوار مثقف كلاسيكي (أحمد عاكف) ومثقف حداثي (أحمد راشد) عن الفلسفة القديمة منها و الحديثة، ولا أنسى هذ الجملة التي قالها أحمد راشد "لعصرنا رسله أيضًا، أضرب لك مثلًا بهذين العبقريين كارل ماركس وسيغموند فرويد". يومها أتذكر جيدًا أني عجزت عن النطق الصحيح لاسم "فرويد" وأني أسرعت إلى خالي أسأله عن هذين العبقريين، فأخبرني عنهما بإطناب رغم أنه إسلاميّ الهوى.

وسلمتني "خان الخليلي" إلى "الشحاذ": لمّا توجهت إلى المكتبة العمومية لأعيد "خان الخليلي" سألني أمين المكتبة عما شدّني إليها. فحدثته عن الفلسفة كما ساعدني خالي على فهمها. عندها مدّني برواية "الشحاذ" قائلًا: لو تمكنت من قراءتها فسترين نجيب محفظ بعيون أخرى. وهكذا كان: وجدتُ نفس العمق ولكن بأسلوب جديد شدني كثيرًا، وتعاطفت مع عثمان الخارج من سجن النضال ليقع في سجن الهوى من خلال  حبه لابنة صديقه المحامي (الشحاذ) يساري الأمس برجوازي اليوم.  

وقادني "الشحاذ" إلى "ثرثرة فوق النيل" لأعيش مع شخصيات متنافرة لا تجمعها إلا "متعة" الهروب من الواقع (الموظف والممثل والمترجمة والممثلة المغمورة الباحثة عن فرصة والصحفيّة...)، فكانت العوامة أرضهم الثابتة التي تجمعهم (رغم أنها غير محمولة على الثبات بطبعها بحكم تواجدها فوق النيل). ولما نزلوا إلى أرض الواقع كانت الجريمة وكان الخلاف وكانت النهاية أو لعلها البداية، كما نزل آدم وحواء من جنة النعيم إلى أرض الامتحانات الصعبة والمواجهات الدامية، فكانت بداية الحياة.

أمّا "موسم الهجرة إلى الشمال" فتلك قصة أخرى، قصة الشرق والغرب، قصة اغتراب مصطفى سعيد الذي خرج من الصحراء إلى لندن فأبلى البلاء الحسن في الاقتصاد والحب، وعاد بعد سنوات إلى صحرائه حاملًا معه مدفأة إنجليزية غرسها في قلب بيته وقلبه. ليجد آخر ضحاياه "حسناء بنت محمود" مثال الأنثى الذي أتمنى دائمًا أن أكونها: القوّة الناعمة والجمال الهادئ المنساب دون شطط أو مبالغة. حرّرها مصطفى سعيد من عادات القرية، فتمرّدت بعد فاته ودفعت حياتها ثمنا لحريّتها.

  • من كاتبك المفضل ولماذا أصبح كذلك؟

كُتّاب كثيرون أحب أغلب ما كتبوه. ولكن يمكنني أن أقول إن ثلاثة هم من أحب كل ما كتبوه: نجيب محفوظ، ميلان كونديرا وأليف شافاك.

"الخلود" و"كائن لا تحتمل خفته" و"فالس الوداع" وغيرها، تتنوع ولكن عندما تقرؤها تقول إنه كونديرا حتى دون حاجة إلى قراءة اسمه على الغلاف. أليف شافاك أكثر كاتبة تعبر عني كامرأة. "إيلا" بطلة "قواعد العشق الأربعون" أربكتني كأنثى، الأم في "حليب أسود" طمأنتني كأم وزوجة، و"بنات حوائها الثلاث" (الآثمة والمشوشة والمؤمنة) عبّرن عني، عن تقلباتي، عن أسئلتي التي تؤرقني أحيانًا وتريحني أحيانًا أخرى. "لقيطتها" المتمرّدة (رواية لقيطة اسطنبول) التي أعادت فتح ملف مذابح الأرمن، الوصمة التي سعت الدولة العثمانية وتسعى الآن الدولة التركية إلى التخلص من حملها... وليتني أستطيع أن أتحدث عن جميع نسائها وما فعلنه بي.

نجيب محفوظ أعشق كل ما كتبه أيضًا، أحب تفاصيله وتوظيفه للتاريخ وعلم الاجتماع وعلم النفس والفلسفة في كتاباته دون مشقة، دون أن تحسّ أنه يستعرض درسًا ثقيلًا. تعلمت منه الكثير، وأعتقد أن جميع كتبه موجودة في مكتبتي، اشتريتها كلها عندما سمحت إمكانياتي المادية بذلك انتقامًا لسنوات كنت مضطرة فيها إلى إعادة رواياته إلى المكتبة العمومية بعد الانتهاء من قراءتها.

  • هل تكتبين ملاحظات أو ملخصات لما تقرئينه عادة؟

هناك فقرات أو جمل بعينها أؤشر عليها إما على الكتاب مباشرة أو أنقلها في مفكرة خاصة. وأحيانًا أكتب انطباعي على الفيسبوك من خلال قراءة عاشقة..

  • هل تغيرت علاقتك مع الكتب بعد دخول الكتاب الإلكتروني؟

نعم، الكتاب اللإلكتروني مكنني من الاطلاع على تجارب حديثة أخرى. ولكني بقيت وفية للكتاب الورقي لسببين: أولهما متعة لمس الكتاب ومرافقته لي أينما ذهبتُ. وثانيهما سعادتي وأنا أرى مكتبتي تحتفل بحلول كتاب جديد وافد عليها. وأول شيء حملته من منزل والدتي إلى منزل زوجي كان أغلب كتبي، بل لعل قيمتها وعددها كان أكثر من أواني الطبخ وأطقم الطعام التي عادة ما تتنافس الفتيات لحملها في الجهاز.

  • حدثينا عن مكتبتك.

لم أحص عدد الكتب، ولا أريد فعل ذلك فأنا لا أحب الأرقام. هي مكتبة متنوعة أنظمها حسب الاختصاص إلى صنفين: كتب قانونية وكتب أخرى (روايات، دواوين شعر، مجموعات قصصية، وكتب في النقد والفلسفة وعلم الاجتماع والتاريخ). وأصنفها أيضًا إلى مجموعتين: كتب باللغة الفرنسية وكتب باللغة العربية. وأرتبها حسب الترتيب الأبجدي للمؤلفين.

لا يمرّ شهر واحد دون أن أشتري كتابين على الأقل. وطبعًا معرض الكتاب هو الفرصة الذهبيّة لاقتناء الكتب.

  • ما الكتاب الذي تقرئيته في الوقت الحالي؟

رواية "فردقان.. اعتقال الشيخ الرئيس" ليوسف زيدان. هذه الرواية وصلت إلى القائمة القصيرة لجائزة البوكر العربية لهذه السنة، وتعرض أسباب وظروف اعتقال ابن سينا في قلعة فردقان مع إشارة إلى الأمراض التي وجدها منتشرة في تلك القلعة وتدخل العسكر في الحكم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة هند الزيادي

مكتبة عثمان لطرش