01-يونيو-2020

الكاتبة هند الزيادي

ألترا صوت – فريق التحرير

يخصّص "ألترا صوت" هذه المساحة الأسبوعيّة، كلَّ إثنين، للعلاقة الشخصية مع الكتب والقراءة، لكونها تمضي بصاحبها إلى تشكيل تاريخٍ سريّ وسيرة رديفة، توازي في تأثيرها تجارب الحياة أو تتفوّق عليها. كتّاب وصحافيون وفنّانون يتناوبون في الحديث عن عالمٍ شديد الحميميّة، أبجديتُهُ الورق، ولغته الخيال.


هند الزيادي كاتبة وروائية من تونس. من أعمالها: "الصمت"، و"غالية أو الرجل الذي سكن البرج مع ماتريوشكا"، و"غرفة الأكاذيب".


  • ما الذي جاء بك إلى عالم الكتب؟

نشأت في عائلة تمثل جيلها بامتياز، وتعطي التعليم أولوية مطلقة، لذلك كانت الكتب دومًا موجودة في منزلنا. لكن العامل المؤثر المباشر في علاقتي بها كانت شخصية والدي. وهذا اكتشاف غريب بعض الشيء فقد كنت دومًا مسكونة بفقد والدتي وأحسب إلى وقت غير بعيد أن ذلك الغياب هو الذي أنطقني وشكّل فضولي لمعرفة ذلك المجهول الذي اختطفها من بيننا ثمّ مطاردته في الكتب لأعثر على إجابة. غير أن الحقيقة كانت تحت أنفي طوال الوقت دون أن أنتبه لها: أنا صنيعة والدي، وبالتالي نشأ شغفي بالقراءة والكتب من علاقتي بوالدي. كانت لعبتي المفضلة معه عندما كنت صغيرة أن يتحداني بذكر اسم بلد مّا فأذكر له اسم عاصمته، وكلما نطق اسما غريبا قدح زناد مخيلتي ورغبتي في معرفة المزيد عن ذلك البلد. كان يحدثني بفخر عن أسماء تبدو لي من علوّ سنواتي الستّ كأنها أسماء عمالقة جبّارين وتبدو لي مثيرة للاهتمام فمنه عرفت باتريس لومومبا وسنغور، ومنه سمعت عن جمال عبد الناصر، ومنه سمعت اسم لينين وتروتسكي. كنت أحادث أبي وألعب لكنّ الحقيقة أنه كان يصنع خيالي ويعطيه الأجنحة التي سيحلق بها، ولما تمكنت من القراءة والكتابة بدأت رحلتي في عالم الكتب بحثًا عن تلك البلدان التي حدثني عنها، فسافرت إليها جميعًا عبر صفحاتها وقرأتها لأعرف المزيد أيضًا عن كل هؤلاء وأعرف سرّ عظمتهم، فتعرّفت إلى الأدب الأفريقي من خلال قضايا الزنوجة ومكافحة الاستعمار، وقرأت الأدب الفرنسي بسبب افتتاني بأحداث الثورة الفرنسية التي قصها عليّ والدي، ثمّ انفتحت على أمهات الأدب الروسي في سنّ مبكرة وتعرفت إلى غوركي ودوستويفسكي وتولستوي وبوشكين. وبارزت آغاثا كريستي في حلّ ألغاز رواياتها الممتعة عندما قرأت مدونتها كلها تقريبًا في بداية سنواتي الأولى في المعهد (المرحلة الإعدادية اليوم).. وهكذا. أكملت الكتب ما بدأه والدي وكنت كلما قرأت منها قالت روحي هل من مزيد. وكلما وجدت جوابًا على سؤال خامرني قذفت لي الكتب عشرات الأسئلة مقابله وهكذا استمرت علاقتي بها في رحلة دهشة يومية أزلية لا تنتهي إلى أن جاء يوم وصارت البنت الصغيرة التي تقرأ الكتب راغبة في كتابتها فكتبت.

  • ما هي الكتب الأكثر تأثيرًا في حياتك؟

هذا سؤال مخاتل وإجابته مركبة جدًّا. قراءاتي الأولى كانت تحتفي بالحكي ولذته وكانت فكرتي عن الكتب التي أقرؤها أنها تشحذ خيالي وتدفعني إلى توسيع مداركي، كنت مستمتعة بحكايات كليلة ودمنة وألف ليلة وليلة وقصص العظماء وغيرها، إلى أن قرأت كتاب الأم لمكسيم غوركي في بداية دراستي الثانوية فأدركت أن الأدب أكبر من أن يكون مجرّد حكي ممتع تنتهي متعته بانفضاض مجلس القراءة. عرفت أن الأدب يمكنه أن ينخرط في قضايا عصره ومجتمعه، وأن يلعب دورًا في تشكيل وعي الناس الذين يقرؤونه، وهو ما ساهم فيما بعد بشكل كبير في تحديد موقعي وهويّتي بما أنا كاتبة. وكانت هذه بداية إدراكي بشكل متتال من خلال قراءاتي المتنوعة في الرواية والتاريخ والسياسة والأنتروبولوجيا أن الأدب عالم محيط غميق وظيفته أكبر من مجرد الالتزام الأيديولوجي. عالم له شروط فنيّة معقدة واتقان مهاراته لا يكمن فقط في إتقان مهارة الحكي وحدها. هذه الفكرة بالذات قوّضت مسألة "الكتب الأكثر تأثيرًا في حياتي" إذا جعلت كل الكتب القيّمة غنيمة كبرى تؤثّر في حياتي بشكل أو بآخر، وأخرجتني من فكرة "الحصريّة" إلى فكرة أرحب هي الجمالية والتنوع. وصرت مؤمنة أن وعيي يتحول ويتطور ويتشكّل باستمرار بعد كل كتاب جيد أقرؤه. وهذا على ما أعتقد ما جعلني حين أكتب قصصي أو رواياتي أحرص على أن لا أكرر ثيماتي أو أدواتي الفنية حرصًا على مبدأ الثراء في التنوّع.

  • من هو كاتبك المفضّل ولماذا صار كذلك؟

بسبب إيماني بأهمية التنوع في قراءاتي لا يمكن أن أقول إنني أفضل كاتبًا بعينه فأنا أحب أن أقرأ للجميع، وأترك للكتاب مهمّة شدّي إليه، حتى أنني تعودت أن أبدأ في قراءة أكثر من كتاب في نفس الوقت، وتدخل هذه الكتب في سباق تلقائي لشد اهتمامي فما نجح منها في ذلك أكملته وما فشل تركته. لكن لأكون صادقة أعترف أن أدب أمريكا اللاتينية يشدني أكثر من غيره لما فيه من ثراء أشبهه بالغابات الاستوائية الخصبة بالألوان والنبات والثمار. لا أعرف ما سرّهم ولكن وأنت تقرأ لماركيز أو بارغاس يوسا أو لبابلو نيرودا أو بورخيس أو أستورياس.. كن متأكدًا أنك ستعثر دومًا على ما يدهشك من تفاصيل ثمينة، ترسم لوحات فريدة إن على مستوى رسم الشخصيات أو التقنيات أو الحبكة. بينما يشدني الأدب الرّوسي لشدّة اعتنائه ببناء الشخصيات واهتمامه بتفاصيلها النفسية الدقيقة التي يغوص فيها. كما أحبّ كثيرًا القراءة للكاتبة التركية أليف شفق لأنها تمثل روح وطنها في كتاباتها، وتحتفي بالحكي كثيرًا وهو أمر أطمح أن أقدّمه لتونس وقرّائها، فهي بهذا تشبهني.

  • هل تكتبين ملاحظات أو ملخّصات لما تقرئينه عادة؟

مع هذا الجواب سيكرهني الكثير من القرّاء المرتّبين المنظمين. إذا أحببت كتابًا دنّسته أجمل تدنيس إذ تجدني أروح جيئة وذهابًا على هامش الصفحات أدون الملاحظات، وأعيد كتابة نصوص جديدة على النص الأصلي من خلال ما بثيره في ذهني من أفكار مختلفة. وألصق على صفحاته أوراقًا ملونة أكتب عليها ما خطر بذهني من أسئلة فأخلق طروسًا داخله. وأستخدم القلم لأسطر ما استرعى انتباهي، وتستمر معركتي الخلاّقة مع ذلك الكتاب إلى أن أستنزفه وآخذ روحه عندي وأتركه جثة منهكة، ولكن أحسبها جثّة سعيدة لأنها حققت هدفها، فرحيقها الذي امتصصته منها سيبث في عقلي وروحي أجمل حياة. وفي نفس الوقت أكتب مصير ذلك الكتاب إذ أحرّم استعارته على من سيراه في مكتبتي ويطلبه وهكذا يبقى عندي إلى الأبد.

  • حدّثينا عن مكتبتك.

مكتبتي متنوعة غير حصرية ولا هوية أيديولوجبة لها. كوّنتها منذ الطفولة فكانت تكبر مع مداركي وتتنوع بتنوع أفكاري واكتشافاتي فتجد فيها الألغاز ومجلة عرفان وروايات العروسي المطوي وآغاثا كريستي وأشعار درويش ومظفر النواب ونزار قباني وإحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ وأشعار سنغور وكتابات صمبان أوصمان ومكسيم غوركي وموراكامي وأستورياس ويوسّا وبورخيس.. وهكذا كانت تواكب مع مراحل نموّي الذهني وكثرة الأسئلة وتشعّب مجالات الفكر والثقافة، لذلك تجد فيها ما يهم النقد الأدبي ونقد العقل وما يهم الكتب المؤسسة للاتجاهات الفكرية المهمة التي أنتجتها البشرية، فعلى رفوفها يتجاور كتاب رأس المال مع نظرية الثورة العربية لعصمت سيف الدولة مثلًا. لكن ما يميّز مكتبتي أنها حيّة ومتحولة دائمة في انسيابية متجددة لأنني صرت أرفض فكرة أن أحنّط الكتب على رفوف لأرضي حب التملك عندي، لذلك كثيرًا ما أهب الكتب التي قرأتها أو أعيرها وأسمح لها بذلك أن تُخلق من جديد وتواصل دورة حياتها في مكان آخر مع إنسان آخر، واترك بذلك مكانًا لكتب جديدة. أستثني من دورة الحياة هذه تلك الكتب التي شدتني ودنستها بمهرجان الألوان والأوراق.

  • هل تغيرت علاقتك مع الكتب بعد وجود الكتاب الإلكتروني؟

إطلاقًا، بل زادني الكتاب الإلكتروني تعلقًا بالكتاب الورقي وأضاء على جماله وعمق العلاقة معه. فالكتاب الورقي يفرض عليّ قراءة فكرية حسية، وبالإضافة للمتعة الفكرية يستثير حواسّي. ذلك أن لمس الأوراق وتقليبها وشمّ رائحتها كلها عمليات تساعدني على الفهم وتمثّل الكتاب وحسن استيعابه. ويصير الكتاب رفيقًا بالمعني الحرفي للكلمة، إذ يحدث أن يرتبط باحداث حياتي التي عشتها أثناء قراءتي له وأتذكرها بمجرد رؤيتي لذلك الكتاب مرة أخرى. ويصير شاهدًا صامتًا عليها وهذا يعطيه قيمة إضافية.  لذلك اعتبر الكتاب الإلكتروني شرًا لا بد منه، وأتعامل معه على هذا الأساس فأقرأ ما احتاجه مضطرة لا سعيدة متحمسة.

  • ما الكتاب الذي اقرئينه في الوقت الحالي؟

أنا أقرأ ثلاثة كتب في نفس الوقت. الأول شارفت على الانتهاء منه هو "نقد الرواية النسائية في تونس" لمحمود طرشونة، والثاني "الكتابة بالحبر الأسود" لحسن مدن وهو كتاب ممتع يفكك من خلاله فعليّ القراءة والكتابة من خلال تجارب مفكرين وكتّاب كتبوا عن المسألة، وهو كتاب قيّم جدًا. أما الثالث فهو كتاب "مختارات من يوميات أناييس نن" بترجمة للكاتبة العراقية لطفية الدليمي، وفي هذا المؤلَّف أستمتع بالقرب من كاتبة أمريكية أثارت الجدل بكتاباتها وشخصيتها التي تحتفي بحريتها وتعيشها في بساطة مربكة، بل وتجعل من حريتها تلك قماشة أصيلة لإبداعها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مكتبة عثمان لطرش

مكتبة محمد الحباشة