06-ديسمبر-2023
غلاف رواية مثل ريح طرزت بالأرض

رواية مثل ريحٍ طُرِّزت بالأرض (الترا صوت)

صدرت عن "منشورات تكوين" في الكويت، مؤخرًا، الطبعة العربية من رواية "مثل ريحٍ طُرِّزت بالأرض" للكاتبة الإيطالية إيلاريا توتي، ترجمة أماني فوزي حبشي.

تدور أحداث الرواية التي تقع في 472 صفحة، خلال الحرب العالمية الأولى. وتسلط الضوء على نضال مجموعة طبيبات حُرمن من دخول غرف العمليات الجراحية وتطبيق ما تعلّمنه خلال سنوات الدراسة، لصالح العناية بالنساء والولادة فقط.

ولكنهن، وبفعل وحشية المعارك ونتائجها البشعة، إضافةً إلى استعمال الألمان وسائل حرب غير مشروعة خلّفت جروحًا غريبة وغير مألوفة، قرّرن إلى جانب مجموعة من الممرضات والمساعدات، وبدعوة من جمعية خيرية فرنسية، التوجه إلى الجبهة والمساعدة في علاج جرحى الحرب.

هكذا نتابع تفاوت مصائر هذين العالمين، عالم الطبيبات وعالم الجنود على جبهات القتال، إضافةً إلى القيود المفروضة على المرأة على مختلف الأصعدة، فهي مقموعة لا يُسمح لها بممارسة الأعمال التي يحتكرها الرجال، غير موثوق بها، بل وموضع إدانة للمجتمع على نحوٍ مستمر

ووسط هذه الأجواء، تجد "كيت"، بطلة الرواية، نفسها في حيرة من أمرها بين ترك ابنتها والانضمام إلى تلك المجموعة، أو البقاء لرعايتها وحرمان نفسها من المشاركة في عملية شجاعة ربما تحسّن من وضع النساء في المستقبل.

وتركّز الرواية، في جانب منها، على كيفية استقبال الجنود الجرحى خبر أن المستشفى التي انتقلوا إليها يتكون طاقهما الطبي والتمريضي من النساء فقط، وكيف تعاملت النساء في المقابل معهن داخل المستشفى. وجدير بالذكر أن الرواية تستند إلى أحداث حقيقية وشخصيات تاريخية تشير إليها المؤلفة في نهايتها.

ننشر هنا جزءًا من الفصل الثالث من الرواية.


تتسبب رياح الشمال في أن تصفق طبقات الخيمة الرسمية، تهب على المعسكر وتعذب الجنود بذكريات وآمال، إذ أحضرت معها رائحة ملح الشاطئ. تدفعهم للتفكير في رحلة بحرية قاموا بها، ولكن هذه المرة على نحوٍ مختلف، حيث أعادتهم إلى التفكير في دوفر، وصخورها، لم يودعوها أخيرًا، ولكنهم على وعد بعودة لا أمل فيها.

شعر بغضب شديد تتشابك فيه أيضًا أفكاره التي يحتاج إلى تجميعها. جعَّد ألكسندر الورقة التي كان يكتبها وألقى بها في المجمرة. تآكلت الحافات ثم اندلعت النار فجأة واشتعلت بسرعة. كانت المحاولة الخامسة التي تحترق.

وفي المدخل أطلَّ أحد الجنود. كان صامويل كُنواي، وجهه النحيف مصبوغ باللون القاتم، ورقبته ويديه أيضًا. تُحدِّق عيناه الفاتحتان بعصبية. هو أيضًا جندي مشاة خبير ويعرف ألكسندر قبل بداية القتال بفترة.

  • لقد أُسرج الحصان، سيدي النقيب، نحن مستعدون.

نهض ألكسندر.

  • سألحق بكم.

حدَّق لحظة أخرى في الرسالة التي حاول، بلا جدوى، الإجابة عليها منذ ساعات، يتريث في تركيب الحروف والمعاني التي تُعذبه منذ أن وقع نظره عليها. في تلك الأسطر دعته خطيبته "بطلًا". وهو لقب يتطلب تضحية كبرى ليكون جديرًا به. فجميع الأبطال قضوا في ساحة المعركة. يقود ألكسندر معركة لم تُطفأ كلها، وسرعان ما ستشتعل فيها النيران. تبدو الرؤى الرومانسية لكارولين، في ذلك المكان، تافهة.

تستدعي الكلمات صورًا. لكنه لم يكن متأكدًا من أن المناظر التي تحيط به، والتي حاليًا تسكنه أيضًا، يسهل تخيلها على من تحبه.

طوى الورقة، ووضعها في جيب المعطف، وأطفأ شعلة المصباح. وأطفأ أيضًا أي فكرة أخرى بينما يضع البندقية على ظهره ويخرج في الظلام.

كانت الجبهة الغربية فوَّهة تفتح الأرض من بحر الشمال حتى جبال الألب. في الساعات الليلية تغلي مُجددًا. شق ألكسندر طريقه بين الجنود الذين يحفرون مدافن ومراحيض، ويراكمون المؤن والذخيرة، وهم يدفعون بعربات تحمل أكياس الرمل ولفائف الأسلاك الشائكة. يؤدون أثناء مروره، الحية العسكرية، أيديهم وملابسهم متسخة وعلى وجوههم آثار التعب الشديد.

يكمن افتراض رهيب في إيقاع العمل المتسارع هذا، فهم يستعدون للمكوث في هذا المكان.

انحنى ألكسندر ليلتقط من على الأرض صورة. كاد أن يدوسها، صورة يغطيها الوحل. صورة امرأة تحمل بين ذراعيها طفلًا رضيعًا وتلتصق طفلة أكبر أسن منه بقليل بتنورة أمها. لم يكن أيًّا منهم يبتسم. بدوا وكأنهم ينظرون إليه هو، وقد كانوا تعساء.

أعطاها بسرعة إلى صمويل:

  • اعثر على صاحبها، لا بد أنه يبحث عنها.
  • بالتأكيد.
  • تغيير الحراس؟
  • انتهى. هل تريد الاستمرار؟ يمكننا أن نؤجل تسليم الخدمات الليلية إلى ما بعد الجولة الاستطلاعية.

لم يكن للتأجيل معنى. ربما ينتظره الموت على بعد بضع خطوات من هنا، وكان بشعًا أن تكون هذه الفكرة أمرًا عاديًّا.

  • لنستكمل.

تفتيش الفِرق يعني الغوص حتى الكاحلين في الوحل الذي تغذيه أمطار الصيف المتأخرة، والتأكد من أن أزرار السترات معقودة حتى أسفل العنق، وأن الياقات نظيفة والأحذية مُفرشة، أن تكون الأَسِرَّة مُرتبة وحقائب الظهر مُعدة، بينما العالم كله يُدمَّر من حولنا. يشعر ألكسندر بالألم والغضب عندما يدخل في الخنادق الرطبة، حيث كل شيء يوحي بالإنسانية الضائعة.

وصلت إلى الضباط مثله رسالة من لندن. القيادة العليا البريطانية توصي ألا تكون أماكن إقامة الجنود مريحة جدًّا. ترغب وزارة الشؤون الحربية في شهداء غاضبين وغيورين.

لم تكن الأضواء الهمجية التي تُضاء ليلًا في خنادق الصفوف الأمامية مصدرها فقط مصابيح المعسكر. كانت الأنفاس التيتحترق من الغريزة الصرفة، لتنجو من خلال نسيان كل شيء اختبرته في حيوات سابقة، ذلك الجانب الآخر من النفس، الذي هدأ حتى هذه اللحظة، واستيقظ الآن ليشحذ أسنانه، ويسن أظافره، ويتعرف على زمجرة وحش إنساني آخر يسكن الحُفر المظلمة، ودوي انفجار على وشك الوقوع. يشير إلى المكان الذي يُغرس فيه نصلُ الخنجر بطريقة أفضل، وهو المكان الذي فيه أحشاء شاب مثله. نجا ألكسندر وآلاف الجنود مثله بسبب ذاكرة بدائية.

حدَّق في حارس مراقبة، يقف على دَرج القصف، ومعدته ملتصقة بحامية الصدر. يعرف كل الرجال الذين يعملون تحت إمرته، ولكن لم يكن قد رأى تلك الهيئة من قبل. توقف بجوار الشاب. وبالقرب منه، بدا له الوجه الذي يبرز من تحت واقية الخوذة وجه مراهق.

  • متى وصلتَ أيها الجندي؟

أدى الصبي التحية العسكرية على الفور.

  • هذه الظهيرة يا سيدي. من كاليه.
  • ما اسمك؟
  • أندرو جراي يا سيدي.
  • كم عمرك يا أندرو؟

تردد الفتى فترة التقاط نفسه:

  • تسعة عشر عامًا يا سيدي.

تفحصه ألكسندر. كانت رموشه طويلة كرموش طفل، وأنفه مرتفعًا، ربما يشبه أنف أمه، إذ لا يمكنه تخيله إلا على وجه امرأة، أو طفل، أنف رقيق للغاية.

أمسك بذراعه، وتجاهل فزعه. كان مثل الإمساك بعظمة. عبارة عن مرفقين وركبتين، يبدو أندرو كفتى مراهق. علَّمه الوضع الصحيح الذي عليه أن يحتفظ به، ذلك الذي يُمَكِّنه من أن يشعر بجسده حتى بعد ثلاث ساعات.

  • اطلب الشاي الساخن بالسكر كل ساعة. من حقك.
  • نعم يا سيدي.

تركه ألكسندر خلفه، ولكنه نادى صمويل بجواره.

  • ضعْ عينك عليه غدًا عندما تحين اللحظة.

انتهيا من التفتيش، ولكن لم يعودا إلى خيام الضباط.

ثمة رجلان ينتظرانهما على حصان في الخلف. أوليفر جونز وسيسيل نيلسون، أفضل قناصيْن لدى ألكسندر، الأول يضع سيجارة بين شفتيه واثنتين خلف أذنيه، والثاني شعره أحمر وجسده ممتلئ جدًّا حدَّ أنه فقد أزرار سترته العسكرية أكثر من مرة. قيل إنه تقريبًا من رابع المستحيلات العثور على واحدة بمقاسه في كل الكومنولث.

صعد ألكسندر على ظهر جواد أسود بلون القار، استعاره من سلاح الفرسان، وقاد حملة الاستطلاع حتى القناة التي تعبر مونس. كان أحد الشواطئ في يد الجيش الملكي، والشاطئ الآخر يبدو مهجورًا، ولكن أحد فروع النسر الألماني قد استولت عليه لتوها، وكسته ظلاًّ.

فجرًا وعلى بُعد أميال قليلة من هناك، في الفجر، هَزمت قوات الإمبراطورية الألمانية الجيش الخامس الفرنسي، بقيادة الجنرال لانريزاك، في معركة شارلروا.

قائد الوحدة لم يدُر كثيرًا حول الكلمات عندما أطْلَع ألكسندر على خطة اليوم التالي:

  • لم يبق أمام لانرزاك سوى أن يطلب منا أن نصل إلى قناة مونس- كونديه ونمكث في الموقع. لا بد أن نقاوم لمدة أربع وعشرين ساعة، الوقت الكافي لنسمح للجانب الفرنسي بأن ينسحب حتى سان فاست. لا بد أن نقاوم فقط.

كرر ذلك، وفي المرة الثانية التي كرر فيها ذلك، كانت نظرته مثبتة على خرائط الحرب فوق الطاولة- التي كانت مكتب معلِّم في مدرسة حُطمت نوافذها- تلك النظرة المحدِّقة بشدة غير القادرة على تحديد ما تشير إليه، الغارقة بالأفكار في عالم داخلي تعم فيه الفوضى.

من سان- فآست، إذا أراد لنا الرب، سوف يعاد تشكيل حملة فرنسية لتحاول إيقاف التقدم البحري للعدو من جديد. إذا وصل جيش القيصر إلى الساحل، ستصبح بريطانيا العظمى هدفًا سهلًا للغاية.

  • ماذا عنا؟ ماذا سيحدث لنا بعد أن نقاوم؟

أراد ألكسندر أن يسأله. لم تكن هناك إجابة مباشرة. لمعرفة الرد لا بد من النجاة لمدة أربعٍ وعشرين ساعة، زمن لا نهائي يقضونه بتلك القلة العددية. قبلها بساعة أرسلت لهم القيادة المركزية التحديثات التكتيكية الأخيرة. تُقدَّر كثافة جنود الأعداء بحوالي ثماني عشرة ألف وحدة لكل ألف ميل.

ثمانية عشر ألفًا. اضطر ألكسندر لإعادة القراءة ليتأكد أنه لم يخطئ. لا يتعدى عدد الإنكليز في كل أنحاء فرنسا وبلجيكا ثمانين ألفًا. الفرنسيون موجودون بأعداد أكبر، ولكن معظمهم غير متمرسين.

نخس الحصان ليصعد إلى الهضبة المطلة على القناة، من النقطة التي يشكل الخليج عندها مطْلعًا. سيكون من الصعب جدًّا الدفاع عن ساحة معركة تمتد في المناطق التي يسيطر عليها العدو. الأمر يقلقه، ولكنه يتوجس خيفة أكثر من الجسور الأربعة التي تمر فوق مجرى المياه في منطقة النتوء. وتلك الأشجار، أشجار الصنوبر التي تخفي عن الأنظار جزء من الشاطئ المقابل، توتره أكثر من أي شيء. كان عليهم قطعها، ولكن شيئًا ما يخبره أن لا وقت لديه.

لحقا به صمويل وأوليفر. يتفحص صمويل الظلام، مرفقاه على السرج، ويداه معقودتان. يبدو وكأن لديه كل الوقت المتاح في العالم، وكل الهدوء أيضًا. أطفأ أوليفر السيجارة، ووضعها خلف أذنه، فوق الأخرى، لتكون في متناول يده بمجرد أن يعودوا إلى منطقة آمنة ولا يتسبب أي ضوء خافت في إرسال إشارة ما. كان يمسك باللجام بقوة، مستعدًّا للهروب أو للمطاردة. مات أخوه أمس أثناء دورية بالدراجة. عندما تلقَّى الخبر، أشعل أوليفر سيجارتين، واحدة له والأخرى لروح هاري. هكذا قال. لم يذرف دمعة، ولم يطلق أي لعنة غاضبة، ولكن ألكسندر رأى يده ترتعش وهو يشعل عود الثقاب، المرة الأولى والوحيدة، منذ أن عرفه، قبل ثلاثة أعوام.

نظر صمويل بتعب إلى الساعة. كانت الثانية بعد منتصف الليل تقريبًا.

  • نحن هنا. لا بد أن سيسيل ضلَّ طريقه كالعادة. لديه حس اتجاهات سيء للغاية.

من الجهة اليمنى، أسفلهم، حيث الضفة، تألق وميض يُغشي البصر وأضاء الليل وارتفعت كرة من النيران في الهواء مكونة قوسًا تامًّا لترسو على الضفة المقابلة. أنارت الإشارة المضيئة مساحة كبيرة من الأرض. لم يتحرك ظل واحد تحت ذلك الضوء المفاجئ وبدا بالفعل أن العدو بعيد.

بعدها ببضع دقائق، لمعت ومضة أخرى، وجاءت هذه المرة من الجهة اليسرى، ومن جديد سقطت دون أن تضيء وجود آخر سوى تلك المباني المهجورة وحجارة الجسور.

بركلة من كعبه، اقترب صمويل بحصانه من حصان ألكسندر.

  • ما رأيك سيدي النقيب؟

لم يكن الصدق جزءًا من المهارات القليلة أو الضرورية لأي قائد، وخاصة في ليلة معركة تُعلن مسبقًا بأنها خاسرة، ولكن لم يكن صمويل وأوليفر بالنسبة إليه مجرد ضابطيْن تابعيْن لوحدته.

ربت ألكسندر على رقبة الحصان، مثلما كان يفعل مع الأفكار المتوحشة التي توتره.

  • يعتقدون أنهم خبثاء. إنهم هناك في مكان ما.

بصق أوليفر على الأرض.

  • قال أحدهم إنه سمعهم يغنون، قبل بدء المعركة Deutshalnd uber alles. لا يعرفون أن يرددوا أي شيء سوى نشيدهم الاستبدادي الملعون.

ترك ألكسندر نظرته لتتوه في الظلام، وكأنه يرغب في القبض على الصورة الموجودة في ذهنه. ألمانيا فوق كل شيء. في تلك الأيام، في تلك الأراضي، يوجد شعب يتقدم وهو يدوس الجثث، جثث أبنائه وأبناء آخرين بائسين.

كان ألكسندر قد سمع القصص التي تصف أبيات الأناشيد التي يغنيها الألمان قبل رعود المدافع، والتي تعلن أزيز القذائف والقصف. فِرَق من الصبية بلا خبرة، أموات بالفعل وهم لا يعلمون. قصص تصل من أراضي المعارك الأخرى، ولكنها تقبع مثل أشباح أيضًا في مزاج رجاله.