11-نوفمبر-2018

جانب من معرض فرانكفورت

منذ عدّة سنواتٍ وحتّى الآن، هناك صورة ثابتة لمعارض الكتب العربية تقريبًا، وهي صورة "سوق الترجمات" إن جاز التعبير. مُلصقات لأعمال مُترجمة تتكدَّس فوق رفوف أجنحة دور النشر العربية. حملات ترويج واسعة لهذه الأعمال في مواقع التواصل الاجتماعي. ندوات وأنشطة مختلفة لجذب انتباه القارئ لها، وحثِّه على شرائها.

كأنّ مُفردة "مُترجمة" تُستخدم كتعويذة لمنح الأعمال الأدبية مكانةً تفوق مكانة الكتب العربية!

كأنّ مُفردة "مُترجمة" تُستخدم كتعويذة لمنح هذه الأعمال مكانةً تفوق مكانة الكتب العربية، وتُعطيها أفضليةً مُطلقة عليها. هذا الانطباع الذي سوف يخرج به أي زائر لمعارض الكتب العربية في يومنا هذا، وفي سريرة نفسه يقول إنّ هذه المعارض تحوّلت إلى ساحةٍ للمنافسة واستعراض أكبر قدرٍ من الترجمات التي تكاد تتحوّل إلى ماركات يُبذل جهدٍ كثيف في الترويج لها. وما ينقصُ المشهد هنا أن يقف الناشر كما الباعة عادةً، ويروّج لبضاعته بالصراخ قائلًا: "نحن من نشر أعمال غابرييل غارسيا ماركيز". أو "لدينا ترجمات جوزيه ساراماغو". هكذا يكتمل المشهد، ويتحوّل المعرض إلى ما هو عليه أساسًا: السّوق.

اقرأ/ي أيضًا: الوجه المظلم للاقتباسات

تعيش دور النشر العربية حياتها في السنوات الأخيرة بين ترجمة الكتب الغربية، والسّعي خلف المزيد من الترجمات. ويُمكن القول، بملء الفم، إنّ الأمر تحوّل إلى ماراثون كبير، لا خاسر فيه سوى المؤلّف والكتاب العربيّ، لأنّ الترجمة تشغلُ الحصّة الأكبر من وقت الناشر العربيّ، دون أن يلتفت إلى الهدف الذي تنهضُ على أساسه عادةً كلّ دور النشر، في كلّ مكان، وهو تقديم الأعمال المحلية الجيّدة للقارئ المحلّي بالدرجة الأولى، أي قبل الالتفات إلى أي نشاطٍ آخر، بما في ذلك الترجمة. والترجمة لا تحضر في هذا السّياق بمعناها الأصيل، والمتعلّق ببناء جسورٍ للتواصيل بين مختلف الثقافات، إنّما بوصفها أداةً للربح لا أكثر، وإلّا كيف نُفسِّر ترجمة ما يزيد عن 12 دار نشر عربية لأعمال الكاتب الروسي فيودور دوستويفسكي؟ وما يزيد عن 10 دور نشر لأعمال الروائي الكولومبيّ غابرييل غارسيا ماركيز؟ وترجمة أكثر من 10 دور نشر أيضًا لأعمال الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو؟ وغيرهما الكثير.

بطريقةٍ ما، وبمعزل عن هذا اللهاث خلفت الترجمة، نستطيع القول إنّ اهتمام الناشرين بنقل أدب الآخرين إلى اللغة العربية لا يُغيِّب الأدب العربيّ، أو يضعهُ أسفل قائمة أولوياته فقط، وإنّما، أكان ذلك بقصدٍ أو دون قصد، يُحدث هوّة عميقة بين القارئ العربيّ والأدب المكتوب بلغته الأم. هذه الهوّة الآخذة بالاتّساع بشكلٍ خطير ومؤسف لا يُبشِّرُ بخير، تأتي كنتيجة طبيعية لمحاولات الناشرين إقناع القرّاء بأفضلية الأدب المترجم على الأدب العربيّ. وهنا يُمكن ملاحظة مقولة تنتشر بصورةٍ سريعة بين القرّاء العرب، وهي مقولة أنّ الأدب العربيّ لا يستحقّ القراءة، وأنّ لا وجود لأدبٍ عربيّ جيّد، الأمر الذي يضع هذا الأدب أسفل قائمة الأولويات، ليس لدى الناشرين فقط، بل لدى شريحة واسعة من القرّاء.

ما تفعلهُ دور النشر العربية بالتركيز على الأدب المترجم، لا يُمكن أن نعرّفه إلّا بـ"ثقافة المهزوم"

مقولة كهذه تشهدُ نموًّا وتطوّرًا سريعًا بين أوساط القرّاء، تحوّل فكرة أنّ لا وجود لأدب عربيّ يستحقُّ القراءة من مجرّد فكرة، إلى قناعة تترسّخ في فكره. بالإضافة إلى أنّ هذه المقولة تُفسِّر، من جهة، توسّع دور النشر العربية بإصدار الكتب المُترجمة سنةً وراء أخرى. ففي إحصاءٍ بسيط قُمنا بإجرائه بدءًا من سنة 2014 وحتّى نهاية 2017، كان من السهل مُلاحظة أنّ عدد الكتب المُترجمة يزيد بمعدّل 5 إلى 15 كتاب سنويًا. هذا العدد الذي سوف يتوسّع في السنوات المُقبلة دون شك، يزيدُ على حساب الكتاب العربيّ، أو يحلّ مكانه بصورةٍ أدق، ويدفعه إلى الهامش والانزواء بعيدًا عن المتن، أي عن مكانه الأصليّ. وهنا، في هذا السياق، لا بدّ من الإشارة إلى أنّ الترجمات التي تصدر عن دور النشر، ليست بالضرورة أن تكون ترجمات لأعمالٍ جديدة، بل لأعمال سبق وأن تُرجمت وصدرت قبلًا بطبعاتٍ مختلفة. سنة 2017 وحدها شهِدت إعادة إصدار عددٍ من الكتب الصادرة سابقًا، ككتب غابرييل غارسيا ماركيز ودوستويفسكي وتولستوي وستيفان زفايغ.. وآخرين.

اقرأ/ي أيضًا: 5 شاعرات من رومانيا

هذا من جهة، ومن جهةٍ أخرى، تُفسِّر هذه المقولة نزوح القارئ العربيّ نحو الأدب المترجم بخطواتٍ ثابتة وواثقة، والسبب أنّ في هذا الأدب ما يعوّض النقص الحاصل عربيًا، كما يروّج البعض. وهذا النزوح يُمكن ملاحظته في صفحات الكتب المترجمة في الموقع الشهير "Goodreads"، إذا قمنا بمقارنتها بصفحات الكتب العربية ونشاط القرّاء فيها، حيث الاجحاف الكبير بحقِّها. في النهاية، إنّ ما تفعلهُ دور النشر العربية لا يُمكن أن نعرّفه إلّا بـ "ثقافة المهزوم".

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

محمد الماغوط.. شاعر الشفوية المضادة

لا تقرأ هذا الكتاب