أصدر الكاتب المصري عمر طاهر "صنايعية مصر.. مشاهد من حياة بعض بناة مصر في العصر الحديث" (دار الكرمة، 2017)، والكتاب تأريخ مدقّق وتفصيلي لعدد كبير من الشخصيات التي استطاعت أن تحقق نجاحًا منقطع النظير في مجالاتها، وذلك في إطار من السرد التشويقي، حيث كان أول عروضها في مقالات الكاتب نفسه في جريدة "الأهرام" بشكل أسبوعي، مما جعله يفكر بعدها أن يجمعها في كتاب.
يقدم كتاب "صنايعية مصر" قصص شخصيات مصرية ساهمت في رسم ملامح البلد وتاريخ سكانه
يستخدم طاهر أسلوبه الصحفي المميز في عرض معلوماته التي وثقها بصور الشخصيات، ولغة تجمع ما بين العامية المصرية والعربية الفصحى، يعرض قصص حوالي 32 شخصية مصرية ويحاول إحياءها في ذاكرة الشباب مرة أخرى، ويحملها كثير من الشوارع والميادين. يصفهم الكاتب بأنهم أشخاص "ساهموا في رسم ملامح هذا البلد مصر وتاريخ حياة سكانه، من دون أن يحصلوا على نصيبهم من الضوء والمحبة والاعتراف بالفضل".
اقرأ/ي أيضًا: في مصر.. موضة "الموديلز" على أغلفة الكتب
يقول طاهر خلال صفحات كتابه حول تلك شخصيات "ما الذي يجمع بين سيرة المنشد سيد النقشبندي، واليوناني المصري تومي خريستو، مؤسس مصنع كورونا للشوكولاتة، وناعوم شبيب، مصمم برج القاهرة الشهير، والمترجم المعروف أنيس عبيد، والدكتور النبوي المهندس، أشهر وزير صحة في تاريخ مصر، والمخرج الكوميدي فطين عبد الوهاب، ومؤلفة كتاب أبلة نظيرة للطهي… وغيرهم من شخصيات الكتاب، سوى الإرادة الصادقة والرغبة في النجاح، والتحدي مهما كانت العثرات، وحب الحياة والإيمان بقدرتهم وقدرة من حولهم على اجتياز الصعاب وتحويل الفشل إلى نجاح؟".
ويوضّح طاهر سبب تسميته للكتاب، أن كلمة "صنايعي" أصبحت كلمة نادرة وتدل على البساطة، وهذا ما أرداه أن يصل للقارئ، وهو ما يعني إعادة قيمة كلمة "صنايعي" وإحيائها. أما عن إصدار جزء ثاني من صنايعية مصر فأتمنى ذلك؛ فهناك شخصيات كثيرة لم تأخذ حظها في الظهور للناس والتعرف على جهودها. كما ينوه خلال تصريحات صحفية إنه "كان هناك العديد من الطرق التي تم إتباعها لجمع المعلومات عن الشخصيات، مثل لقاء أقارب وأهالي الشخصية، أو البحث في أرشيف الصحف والمجلات، وغيرها من الأساليب التي حاولت من خلالها الحصول على معلومات".
أصوات من السماء
تحدث الكتاب عن القارئ الشيخ مصطفى إسماعيل الذي قال عنه موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب: "يفاجأنا دائمًا بمسارات موسيقية وقفلات غير متوقعة، وله جرأة على الارتجال الموسيقي والصعود بصوته إلى جواب الجواب بشكل لا نعرفه في أي صوت حتى الآن"، كما اصطحبه أنور السادات معه ليقرأ في الخارج، كذلك تحدث الكاتب عن الشيخ الجليل محمد رفعت الذي لا يزال حتى الآن صوت أساسي للآذان في شهر رمضان عند المصريين. وذلك بالإضافة إلى الحديث عن المنشد سيد النقشبندي.
الدور النسائي
يتناول الكتاب قصة المرأة القبطية التي كانت تقضي نصف العام تتناول فيه طعامًا محددًا بسبب صيامها، وكانت والدتها تمنعها من دخول المطبخ خوفًا عليها، وهو ما جعلها "تهتم أكثر بالطعام وإتقان طبخه" بحسب الكاتب. اشتهرت فيما بعد بلقب "أبلة نظيرة" الذي أصبح علامة مميزة لأية سيدة مصرية تتعلم طهي الطعام. كانت تلك السيدة نيقولا تعمل كمدرسة لمادة التدبير المنزلي في مدرسة ثانوية بالقاهرة، آنذاك أعلنت وزارة المعارف عن مسابقة لتأليف كتاب في فن الطهي، حتى يتم اعتماده في منهج الوزارة، فعملت عليه تلك السيده مع صديقتها بهية عثمان، فأخرجتا كتاب "أصول الطهي" في حوالي 800 صفحة.
كتاب "أبلة نظيرة" علامة مميزة لأية سيدة مصرية ترغب بتعلم فنون الطبخ
أيضًا يعرض الكتاب قصة أشهر سيدة قدمت برنامج إذاعي بالراديو كان يسمى "التاسعة إلا الربع"، في الفترة ما بين (1940- 1950)، وكان يهدف إلى مساعدة السيدات المصريات في مختلف شؤون حياتهن سواء عن تربية الأطفال أو العلاقة مع الزوج، معتده على حكمتها الأساسية التي تقول "إن المرأة المصرية بحاجة لمن يقتحمها ويشدها إلى الحياة، تحتاج لتفاعل يقول لها إن الحياة أكبر من الأربع جدران التي تعيش بينها". كما كانت تمتلك صوتًا جميل، فكان الموسيقار محمد عبد الوهاب دائمًا ما يسألها "من الذي يلحن لكي صوتك؟
اقرأ/ي أيضًا: مارلين مونرو المصرية.. عاهرة في الأوبرا!
كما يتناول حكاية أول وزيرة في تاريخ مصر حكمت أبو زيد، تلك السيدة الصعيدية التي اعتدت على مدرسها عندما منعها وزملائها من نزول المظاهرات، ومن ثم فصلت فترة كبيرة إلى أن عادت مرة أخرى مع تغير المسؤوليين، أنهت دراستها في كلية الآداب ثم سافرت للحصول على الدراسات العليا من بريطانيا، وعادت لمصر لتدرس في كلية البنات، بعد ذلك بسنوات عينها الرئيس الأسبق جمال عبد الناصر وزيرة للشؤون الإجتماعية. ولم تكن مهمتها هينة خصوصًا مع سخرية المصريين منها كوزيرة أنثى طوال الوقت؛ فمرة يفسرون غيابها عن المكتب بأن زوجها أقسم عليها ألا تغادر المنزل، أو حتى عندما تتأخر في العمل، ويتهامس الموظفون متسائلون عن ما إذا كانت ستصنع طعامًا لزوجها وأولادها هذا اليوم أم لا؟ وغيرها.
شخصيات أخرى
أيضًا تناول الكتاب قصة اليوناني السكندري تومي خريستو مؤسس شركة كورونا، أول من أدخل صناعة الشوكولاتة إلى مصر عام 1919، والذي وصفه طاهر "بصنايعي الشوكولاتة المصري"، كان ينتقي العاملين معه بعناية، حيث أن الآلات التي تصنع عجينة الشوكولاتة كانت تحتاج إلى مهارة ما، وكيف كان خريستو يؤمن بشرط مهم لصناعة الشوكولاتة وهو أهمية أن يكون صانع هذه السعادة سعيدًا، وكان يعتقد أن "عجينة الشوكولاتة حساسة وتلتقط بسهولة مزاج من يطبخها"، فاختار قطعة أرض قريبة من مصنعه، وأعدها كملعب لكرة القدم، كانت تقام عليه مباريات بين العاملين أنفسهم حتى يصنع روح جيدة بينهم.
يوثق الكاتب قصة حمزة الشبراويشي صاحب اختراع كولونيا 555 الشهير، والذي راجت منتجاته في كل بلد عربي كما يقول، ففي مصر حملت اسم 555، وفي السعودية سعود، وفي السودان حملت صورة مطربهم الأشهر عبدالكريم كرومة، وكانت السيدة أم كلثوم بطلة إعلانات منتجاته في مصر. وفي كل مرة كانت تُعرض على الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قوائم بأسماء ستخضع لقرارات تأميم ممتلكاتها، كان يشطب اسم حمزة الشبراويشي، ولا يلتفت إلى وشاية أو تقرير أمني. حيث كان الرئيس يؤمن بأنه رجل عصامي يحب البلاد، خرج من قريته التي تدعى شبراويش لا يحمل سوى ذائقة فريدة، وموهبة في صنع العطور. في البداية استقر بمنطقة الحسين، وافتتح محلًا صغيرًا، لبيع العطور من صنع يديه، بعدها بدأ يشق طريق النجاح والكفاح، حتى تحوّلت منتجاته إلى تفصيل ثابت في حياة المصريين.
يوثق كتاب "صنايعية مصر" قصة حمزة الشبراويشي صاحب اختراع كولونيا 555 الشهير، الذي راجت منتجاته في العالم العربي
استعرض حياة المهندس محمد كمال إسماعيل، الذي قام بتصميم مجمع التحرير ودار القضاء العالي ومصلحة الهواتف، الأمر الذي جعله يمنح لقب البكوية من الملك فاروق في نهاية الأربعينيات لتميزه في العمارة، وكانت آخر وأهم مشاريعه على الإطلاق بأنه أشرف على التوسعات التي تمت في الكعبة الشريفة في السعودية. كما تحدث عن المهندس ناعوم شبيب الذي قام ببناء برج القاهرة الذي يبلغ ارتفاعه 187 مترًا وقام "بإنشاء أول ناطحة سحاب في مصر، عمارة سكنية من 22 طابقاً، وكانت مثار هجوم البعض عليه بسبب جرأة أفكاره في العمارة والإنشاء، ولخص فلسفته يوماً لطلبة كلية الهندسة عن البناء والتشييد بقوله إن التشييد عمل الإنسان لمصلحة أخيه الإنسان".
اقرأ/ي أيضًا: من يمنح جوائز الدولة في مصر؟
كما تحدث عن حياة المترجم الكبير في فترة الأربعينيات أنيس عبيد الذي "درس الهندسة وتعلم دمج الترجمة مع الأفلام في باريس، أثناء تحضير الماجستير. وقتها قرأ في مقر الجامعة إعلان عن دورات تدريبية لكيفية دمج الترجمة المكتوبة على شريط السينما، ترك الهندسة وتعلم ترجمة الأفلام، وبالفعل ترجم أول فيلم له عام 1946 (روميو وجولييت) الذي حقق إيرادات غير مسبوقة". كما اخترع بنفسه جهاز يستطيع طبع الترجمة على أفلام الـ16 مل، الصغيرة، حيث كان من الصعب الكتابة عليها، ووصفته صحيفة المصرية آنذاك بأن "هذا الشاب المصري استطاع أن يتوصل إلى ما فشل الأمريكيون والأوروبيون في الوصول إليه".
في سياق آخر، تحدث عمر طاهر عن الناقد الرياضي نجيب المستكاوي الذي كانت أكبر مميزاته آنذاك إنه لم يركز فقط على أكثر الفرق المصرية جماهيرية "الأهلي والزمالك" وألا تكون مصدر اهتمامه، واهتم بالحديث عن الفرق المغمورة أو التي لم تحظ بتغطية إعلامية مما كان له كبير الأثر عليهم، اشتهر بالألقاب التي يسميها على اللاعبين والفرق المصرية، كما كان أول ناقد رياضي في العالم يثير الغضب في جمهور نادي ما "الأهلي" عندما تنبأ بخسارتهم من فريق أجنبي في مصر، فعندما فاز الأهلي بخلاف توقعاته، ذهبت الجماهير للجريدة التي كان يعمل بها وهتفوا ضده. بالإضافة إلى العديد من الشخصيات التي ذكرها عمر في كتابه، والتي كانت تقديرًا لإسهام كلٍ منهم في مجاله بتفاني شديد.
اقرأ/ي أيضًا: