29-ديسمبر-2020

لوحة لـ صفوان داحول/ سوريا

انتظُرتُكَ أن تأتي، كانَ موعدك اليوم، وكنتُ على ثقةٍ ملطخة بالعمى بك، أفنّد حدسي وأنعتهُ بالشائعات التي تستهدفُ سعادتي، لا شيءَ يخدعني مثل الأمل، سرابٌ كنتُ أراه ماءً يروي عطش قلبي، يضمّدُ جروح روحي العتيقة.

أمسكتُ قلم أحمر الشفاه، كان من المفترض اليوم أن أرسم به شفتيّ، كان ينبغي أن أقف أمام مرآتي في الزاوية الأكثر ضجيجًا من غرفتي التي تطلّ على أسوارٍ مغلقة مثل الأسوار التي تحبس روحي، كان عليّ... وكان عليّ... لكنّ الأشياء اتخذت هيئة أضدادها؛ أحمرُ الشفاه مزّقتُ به نقاء المرآة، أتلفتُ بهِ رونقها، فستاني البنفسجيّ الذي رسمتُ تفاصيلَه وأشرفتُ على تنفيذها خيطًا بخيط، وزرًّا بزرّ، والتفافةً بالتفافة ما عاد يعني لي شيئًا.

أخالُ أنّ الحياةَ تجمّدَت عندَ هذا الحدّ، لا شيءَ يدورُ في رأسي غيرُك، وليسَ عندي كتفٌ أتكئُ عليها إلا كتفك، وكلّ صلابتي كسَرَتها فظاعةُ الوحدة.

أغلقُ على نفسي غربتي، وأوصدُ بابي عليّ، تنزاحُ الضلوعُ من أمكنتها؛ فأشهق. أرتّبُ فوضاي، أعجنُ دمعي بكُتَلِ اليأس. هل كنتَ أنت؟ هل كانت وعودك ماءً يتسرّبُ من شقوقِ إيماني بك؟

كانتْ ليلةً ماطرة، يومَ ضلَلتُ الطريقَ وانعطفتُ جهةَ سوقِ الذهب، شاهدتُ ظلّكَ يرقُبُني، تصوّرْ أنني أُعجبتُ بظلّك! وكنتَ واقفًا، تُداري جسدكَ عن طريق المطر، أدركتُ ذلكَ لمّا اقتربت، وكان في جعبتي شوقٌ يجتاحُني ليدٍ تطفئُ بردَ اللحظة الأولى لانهمار المطر. بزغتَ أمامي. داريتُ نفسي وكتمتُ ارتجافاتٍ كثيرة، تسلّقَ قلبي على الأضلاع التي تحبسُه، وأوقفتُ أنفاسي، ولكنّ ذلك لم يمنعْ وجهي من أن يُصبغَ بلون الدم. كان ظلّكَ يزحفُ خلفي، وصرتُ أبطئُ الخطى المرتبِكة، وحطّ على السورِ غرابٌ أسود، ومنذُ ذلكَ اليومِ عشقتُك.

رُبى، اسمي رُبى، لا أعرفُ لهذا الاسم معنى عميقًا أختالُ به على الأسماء التي تعترضُ طريقي. كنتُ أكرهُهُ دومًا، أشعرُ ببلاهةِ أن تسمّى أنثى بهذا الاسم.

ذات يوم، في فناء بيتنا الذي تعلوهُ شجيراتُ لم أهتمّ يومًا باسمها، حيثُ بسطت الشمسُ موعدَها مع والدي، كنتُ أرقبهما، وكنتُ أتلظّى غيظًا من اسمي الذي تسخرُ منهُ صديقتي التي أكرهها، ياسَمين. توجهتُ إلى أبي الجالسِ مع أشعة الشمس، تنتثرُ في وجهه وضاءة ساحرة، تُضفي على وجهه الناعمِ طزاجةَ الماء النقي، وتجعلُ من عينيه سماءً صافية؛ جلستُ قبالته، واضعةً كفيّ على ركبتيه، محدّقة في وجهه. اقتربتُ منه، قائلة:

- لمَ لمْ تسمِني ياسَمين؟ إنّ حروفها ضعف حروفي، ومعناها أعمقُ من معنايْ، وصورتُها أجملُ من صورتي، حتى صوتُها يا أبي، أرقّ من صوتي وأعذب.

- ولكنّ الياسمين يطير في الهواء كلمّا ضربته عاصفة، ينتهي به الأمر غالبًا تحت أقدام الناس، يدوسونه. هل تحبين أن يدوسكِ أحد؟

- لا يا أبَتِ.

لكنّ حبيبي داسَني. تشكّل في ذهني هلاميًّا، زئبقًا لا أمسكهُ إلا لينزلق، ولستُ أعرفُ له مكانًا، إلا شارعًا كنا نلتقي فيه، كذلكَ غدا شارعنا وطنًا.

أمرّ باسمكَ إذ أخلو إلى نفَسي

كما يمرّ دمشقيٌّ بأندلسِ

أدندنُ هذا البيتَ وأنا أمشي في أزقّةٍ ضيّقةٍ في القدس العتيقة، لا أكفّ عن الالتفات إلى وجه المدينة، تطيرُ حمامةٌ بيضاء وتحطّ على كتفي، أهدأ هدوءَ الصمت في كنَفِ الغياب. يمرّ بي، وحينَ يلمحُني، بعد ثلاث سنواتٍ وخيبة وانتظاراتٍ كثيرة، يسكنُ الصمتُ في عينيه. أتابعُ أنا صمتي مع الحمامة، لا ألوي على شيء، ولا أشتاقُ إلى أحد.

 

اقرأ/ي أيضًا:

البحث عن جُحْر

الطريق يعرف نوايا خطوتنا