27-يونيو-2016

ممنوع الكلام في السياسة منعاً باتاً سواء كنت داخل المعسكر أو كنت في اجازة.(أ.ف.ب)

بعد أن عرف كل منا سلاحه ونقطة التوزيع التي من خلالها سيرحلوننا إلى مراكز التدريب، كل حسب سلاحه وكذلك واسطته؛ توجهنا في اليوم التالي مباشرة لنقطة التوزيع وقد نبهوا علينا أن نتواجد من الثامنة صباحاً كون بوابات مركز الترحيل ستغلق في تمامها، ولن يُسمح لأي شخص أن يدخل بعد ساعته وتاريخه، وهذا ما لم يحدث بالطبع، لكن هناك من تواجد في الموعد المحدد وهناك من تواجد منذ الفجر. بقينا داخل مركز الترحيل حتى الثانية ظهرًا وقد يزيد، ثم انتقلنا بالحافلات لمراكز التدريب.

ممنوع الكلام في السياسة منعًا باتًا، سواء كنت داخل المعسكر أو كنت في إجازة، لكن عادي تتكلم في السياسة مادمت تمجد سياسة الجيش

بعد أن وصلنا مركز التدريب حضر قائد مركز التدريب لكي يعرفنا بنفسه ويلقننا بعض القواعد التي "يمكن أن ننسى أسماءنا ولا ننساها".

أولى قواعد الجيش كانت، والكلام على لسان قائد مركز التدريب، أولاً: "ادي العسكري حقه وبعد كده انكحه، طيب ايه هي حقوق العسكري؟ 1- تاكل، 2- تلبس، 3- تدرب". ولأجل أمانة النقل فإن القائد لم يستخدم لفظة انكحه، ولكنه استخدم لفظة أخرى عامية مرادفة لها.

غير إني لا أعلم إن كان الحق رقم 3 هو فعلًا حق أم واجب، أو ربما يقع في منزلة وسط بين المنزلتين. ثم استطرد "أنت بقى لما تاخد حقوق زي كده لازم تدي واجبات اللي هي إطاعة الأوامر العسكرية".

ثانيًا: "أي أمر عسكري واجب الطاعة ماعدا ثلاثة أوامر، حد يقولك هات فلوسك، مهماتك، شرفك"، وهنا همس في أذن زميل جالس إلى جانبي على الأرض "أنت لازم تسأل التلت حاجات دول من الحقوق ولا الواجبات لأنها لو من الحقوق انت مش من حقك أصلًا تفرط في حقك، على الأقل نظريًا، ثانيًا دي مؤسسة لها هدف سامي تسعى له، وعليه المفروض أصلًا متكونش معرض للسرقة داخل المؤسسة، لأنكم كلكم جايين لنفس المكان لتحقيق نفس الهدف، اللي هنفترض مثلاً أنه الجهاد في سبيل الله، وكمان عشان ما تضطرش تستكمل ما ينقصك في حين أن أكيد في غيرك غير قادر على استكمال ما ينقصه فهيضطر يسرق منك، وفي الحقيقة أنت بتتسرق داخل هذه المؤسسة بكل الطرق والمهمات اللي لازم ما تنقصش عشان توفرها للعسكري اللي بعدك أو عشان أنت تاخدها تاني لو جالك استدعا، في حين أن الكلام لازم يكون من عينة اضرب بهمة وما تخافش احنا موفرين لك كل حاجة والإمكانيات جاهزة". 

اقرأ/ي أيضًا: بعد 13 عامًا..التجنيد الإجباري مجددًا في العراق

حقيقة شكّل هذا الحوار مفاجئة مطبقة، فوجئت تمامًا بكل ما قاله، واتسعت قرنيتي، ليس لغرابة الكلام على أذني، ولكن لأنه قد قاله لشخص لا يعرفه تمامًا، وفي أول يوم له في الجيش، واستشعرت للحظة أنه قد يكون جاسوسًا وسط العساكر، أي "عصفورة"، غير أن شكله ليس كشكل العصافير، ولكن يبدو عليه من هيئته أنه مثلنا، فحتى هذه اللحظة كنا نستمع لكلام القائد ونحن جالسين على الأرض بملابسنا المدنية، لم نكن قد استلمنا مهماتنا بعد والتي ستجعلنا كلنا على هيئة واحدة يصعب من خلالها أن تطلع على دواخلنا أو تتنبأ بها، إلا بعد أن نقضي فترة طويلة معًا.

حقيقة استشعرت من الخطبة الكبيرة التي همس لي بها أنه يخاف أن تغيره السنة التي سيقضيها، أما عن سبب اختياره لي تحديدًا ليخبرني بآرائه التي لا يجب أن يخبر بها أحد هنا، فذلك بسبب "احنا بنضارات زي بعض"!

ثالثًا: ارتفع صوت القائد من جديد،"في الجيش مش من حق حد أقدم منك أنه يشتمك بابوك أو أمك ودي قاعدة لا يمكن كسرها اطلاقاً"، همس مجددًا في اذني "لكن من حقه عادي أنه يشتمك بالشتيمة اللي ممكن يشيل منها كلمة ابن". وعلى الرغم من هذه القاعدة، حين انتقلنا للقوة الأساسية قال لنا الظابط حرفيًّا "عارف أن في مركز التدريب قالوا لكم ممنوع الشتيمة لكن تحب تتشتم ولا نجيب لك جزا"، وهنا اكتشفنا أن في القوة الأساسية سيكون هناك بعض القواعد التي تنسخ ما قبلها.

رابعًا: "ممنوع الكلام في السياسة منعًا باتًا، سواء كنت داخل المعسكر أو كنت في إجازة". فيما بعد أدركنا "أنه عادي تتكلم في السياسة مادمت تمجد سياسة الجيش، وما دمت تقول أن الجيش على حق وكلنا في ضهره، لكن لو قلت غير  تظهر القاعدة ولا كلام في السياسة داخل الوحدة العسكرية، وأي نشاط سياسي أو حزبي فهو محظور على العسكريين، فالجيش كما قيل لنا، أكبر من أي فصيل سياسي وأكبر من حزب س أو ص وأن هدفه الأول هو مصلحة مصر".

خامسًا: وهذه القاعدة لم يخبرنا بها قائد مركز التدريب ولكن أخبرنا بها أحد الضباط في أول يوم لنا في القوى الأساسية، "ريح العسكري يتعبك، اتعب العسكري يريحك"، وبمرادفات كثيرة توضح نفس المعنى والغرض والنظرة للعسكري والعلاقة بينه وبين الرتبة الأعلى منه، أو كما قال لنا أحد الضباط، "العسكري زي السوستة، طول ما انت دايس عليها تحت سيطرتك، لكن أول ما ترفع رجلك أنت أول واحد هتنط في وشه". هي علاقة عبد وسيده إذًا، لأنك ببساطة عسكري ليس لك أي حقوق، فمن الطبيعي أن يكون هذا المنطلق هو شكل العلاقة بينكما، أنت كعسكري تمثل عبئًا كبير على من هو أقدم منك، أو الرتبة الأعلى، سواء كان ضابط صف أو ضابطًا، بدلاً من أن تكون له طاقة بشرية يمكن الاستفادة منها وسبب هذا العبء تشابك المفاهيم وعدم وضوحها.

اقرأ/ي أيضًا: الجوع.. سلاح داعش للسيطرة على سكان الفلوجة

فمثلاً أنت هنا لا تمثل أحد تطبيقات المواطنة في أداء الخدمة العسكرية، المفروض نظريًا، لكن في الحقيقة أنت تشكل أحد تطبيقات العبودية لا المواطنة، فدخولك المؤسسة كمؤسسة تنشئة لتخرج منها عبدًا صالحًا للعيش بمجتمع العبيد بصك العبودية "شهادة إتمام الخدمة العسكرية".

وحقيقة كنا نحاول طرح هذا السؤال فيما بيننا نحن العساكر.. لماذا؟ فخرج علينا أحد أصدقائنا قائلاً "هو مش متخيل قد ايه أنت ممكن تفيده، لكن الموضوع ده مكلف جدًا بالنسبة له، ياراجل كبر مخك، من الأفضل له أن تكون بلا قيمة أو هدف خلال تلك الفترة، حيث تصبح مؤهلاً لأن تكون بلا قيمة أو هدف بعد إنهاء فترة تدريبك وتخرج قادرًا على التعامل مع المجتمع، غير أن السلطوية غير قادرة على خلق أي إبداع، ودائمًا حلولها مكررة وقديمة".

 في الحقيقة أنت تشكل أحد تطبيقات العبودية لا المواطنة، فدخولك المؤسسة العسكرية كمؤسسة تنشئة لتخرج منها عبدًا صالحًا للعيش بمجتمع العبيد

"هو ليه مش قادر يتخيل الحالة العبثية اللي احنا وصلنلها؟" فقلت له: "أعتقد لأنه ايضًا مر بفترة تنشئة، لكن تنشئته تختلف عن تنشئتنا، النقيض تمامًا، هو اتربى واتدرب على أن يكون السيد، طول ما هو مرتاح ومطمئن قلبه أن العبيد سيظلوا عبيدًا له، فاستمرارية الوضع الراهن تخدم الطرف الأقوى، لكن هل ضمن تقلبات الزمان؟!".

سادساً: "السيئة تعم والحسنة تخص"، بعدما تم تكديرنا في طابور ثبات لمدة ساعة أو يزيد بسبب غلطة عسكري واحد، حاول أحد أصدقائي أن يفكر بصوت عال معي قائلاً: "أنت بتتعاقب هنا نتيجة لفعل فرد، ودايمًا يقولوا لنا قول انا متقلش احنا، وما تحاولش تقوم سلوك زمايلك اللي معاك، انا مش فاهم حاجة".

فقلت له: "ممكن السبب أنه مش عايز يطلع حد تكون له شخصية كارزمية، والعمل بمبدأ فرق تسد، فأنت هنا هتنفذ الأوامر يعني هتنفذ الأوامر، فتنفذها بالشكل الأمثل له مش ليك، حتي لو كان الشكل ده مرهق ومتعب جداً". فرد قائلاً "السؤال هنا، منين كل واحد يخليه في حاله وفي نفس الوقت لو زميلي غلط اشيل معاه لأن السيئة تعم".

اقرأ/ي أيضًا: 
 مصر 2016.. السلاح قبل الخبز أحيانًا

 سيناء..الأسئلة المحرمة!