05-يناير-2024
مقطع من قصيدة فلسطين الدامية لـ الجواهري (الترا صوت)

مقطع من قصيدة فلسطين الدامية لـ الجواهري (الترا صوت)

يحظى الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري (1899 – 1997) بمكانة استثنائية في المشهد الشعري العربي تُعبّر عنها ما أطلقه عليه النقّاد والقرّاء والكتّاب من أوصاف وألقاب، منها "متبني العصر"، و"شاعر العرب الأكبر"، و"خاتمة الشعراء الكلاسيكيين العظام".

ولد محمد مهدي الجواهري في 26 تموز/يوليو عام 1998، ونشر ديوانه الأول "حلبة الأدب" في عام 1923. ومنذ ذلك الوقت، توالت قصائده التي أثبت من خلالها أن الشعر العربي، بشكله القديم، قادرٌ على أن يكون معاصرًا وفي صلب معارك زمنه.

وإلى جانب العديد من المواضيع والقضايا المحلية والعالمية، كتب الجواهري الكثير من القصائد عن فلسطين، من بينها قصيدة "فلسطين الدامية" التي ننشرها هنا، والتي كتبها في عام 1929، أي قبل نحو 20 عامًا من النكبة. والقصيدة بحسب الكاتب العراقي هادي العلوي: "تنفجر بالوجدان الثوري فتكتسب من ذلك حرارة تدل على عمق وصدق المعاناة".

كما أنها تعبّر عن إيمانه الشديد: "بالعنف المسلح كأداة وحيدة لمجابهة العدوان الاستعماري على فلسطين"، وتندِّد أيضًا باللجوء: "إلى المحافل الدولية أو الاستنجاد بمعسكر الأعداء الذي يقف وراء الصهيونية ويمدّها بأسباب القدرة التي ستمكّنها من مصادرة فلسطين".


فلسطين الدامية

لو استطعتُ نشرتُ الحزنَ والألما

على فلسطين مسودًّا لها علما

 

ساءت نهاريَّ يقظانًا فجائعها

وسئن ليلي إذ صوَّرنَ لي حلما

 

رمتُ السكوتَ حدادًا يوم مَصرَعِها

فلو تُرِكتُ وشأني ما فتحت فما

 

أكلما عصفت بالشعب عاصفةٌ

هوجاءُ نستصرخ القرطاس والقلما؟

 

هل أنقذ الشام كتابٌ بما كتبوا

أو شاعر صانَ بغدادًا بما نظما

 

فما لقلبي جياشًا بعاطفةٍ

لو كان يصدقُ فيها لاستفاضَ دما

 

حسب العواطف تعبيرًا ومنقصةً

أن ليس تضمنُ لا بُرءًا ولا سقما

 

ما سرني ومضاءُ السيفِ يعوزني

أني ملكتُ لسانًا نافثًا ضَرما

 

دمٌ يفور على الأعقاب فائرُهُ

مهانةٌ ارتضي كفوًا له الكلما

 

فاضت جروحُ فلسطين مذكرةً

جرحاً بأنْدَلُسٍ للآن ما التأما

 

وما يقصِّر عن حزن به جدة

حزن تجدده الذكرى إذا قَدُما

 

يا أُمةً غرها الإِقبالُ ناسيةً

أن الزمانَ طوى من قبلها أمما

 

ماشت عواطفَها في الحكم فارتطمت

مثلَ الزجاجِ بحد الصخرة ارتطما

 

وأسرعت في خطاها فوق طاقتها

فأصبحت وهي تشكو الأيْنَ والسأما

 

وغرَّها رونق الزهراء مكبرة

أن الليالي عليها تخلع الظُّلَما

 

كانت كحالمة حتى إذا انتبهت

عضّت نواجذَها من حرقةٍ ندما

 

سيُلحقون فلسطينًا بأندلسٍ

ويَعطفون عليها البيت والحرما

 

ويسلبونَك بغدادًا وجلقةً

ويتركونِك لا لحمًا ولا وضما

 

جزاء ما اصطنعت كفاك من نعمٍ

بيضاء عند أناسٍ تجحد النعما

 

يا أمةً لخصوم ضدها احتكمت

كيف ارتضيتِ خصيمًا ظالمًا حكما

 

بالمِدفع استشهدي إن كنت ناطقةً

أو رُمْتِ أن تسمعي من يشتكي الصمما

 

وبالمظالمِ رُدي عنك مظلمةً

أولا فأحقر ما في الكون مَنْ ظُلِما

 

سلي الحوادثَ والتأريخَ هل عرفا

حقا ورأيًا بغير القوةِ احتُرما

 

لا تطلُبي من يد الجبار مرحمةً

ضعي على هامةٍ جبارةٍ قدما

 

باسم النظامات لاقت حتفَها أممٌ

للفوضوية تشكو تلْكم النظما

 

لا تجمع العدلَ والتسليحَ أنظمةٌ

إلا كما جمعوا الجزارَ والغنما

 

من حيث دارتْ قلوبُ الثائرين رأتْ

من السياسةِ قلبًا باردًا شبما

 

أقسمتُ بالقوة المعتزِّ جانبُها

ولست أعظمَ منها واجدًا قسمًا

 

إن التسامح في الإسلام ما حصدت

منه العروبة إلا الشوكَ والألما

 

حلتْ لها نجدة الأغيار فاندفعت

لهم تزجي حقوقًا جمةً ودما

 

في حين لم تعرف الأقوامُ قاطبةً

عند التزاحم إلا الصارمَ الخذما

 

أعطت يدًا لغريبٍ بات يقطعُها

وكان يلثَمُها لو أنه لُطِما

 

أفنيتِ نفسَكِ فيما ازددتِ مِن كرم

ألا تكفّين عن أعدائك الكرما

 

لابَّد من شيمٍ غُرٍّ فإن جلبت

هلكًا فللأبد أن تستأصلي الشيما

 

فيا فِلَسْطينُ إن نَعْدمْكِ زاهرةً

فلستِ أولَّ حقٍ غيلةً هُضِما

 

سُورٌ من الوَحْدةِ العصماءِ راعَهُمُ

فاستحدثوا ثُغْرَةً جوفاءَ فانثلما

 

هزّت رزاياكِ أوتارًا لناهضةٍ

في الشرق فاهتَجْنَ منها الشجوَ لا النغما

 

ثار الشبابُ ومن مثلُ الشباب إذا

ريعَ الحمى وشُواظُ الغَيْرَةِ احتدما

 

يأبى دمٌ عربيٌ في عروقِهِمُ

أنْ يُصبِحَ العربيُّ الحرُّ مهتضما

 

في كل ضاحيةٍ منهم مظاهرةٌ

موحدين بها الأعلامَ والكلما

 

أفدي الذينَ إذا ما أزمةٌ أزَمَتْ

في الشرق حُزنًا عليها قصَّروا اللِمَما

 

ووحدَّتْ منهُمُ الأديانَ فارقةً

والأمرَ مختلفًا والرأيَ مُقتَسمَا

 

لا يأبهون بإرهابٍ إذا احتدَموا

ولا بِمَصْرَعِهِمْ إن شعبُهم سَلِما.