25-سبتمبر-2019

المفكر الجزائري الراحل محمد أركون (Corbis)

دون أن يلتفت إليها أحد تقريبًا، مرّت منذ بضعة أيّام قليلة، الذكرى التاسعة لرحيل المفكّر الجزائريّ محمد أركون (1928-2010)؛ أستاذ تاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في جامعة السوربون، الذي غادر عالمنا منتصف أيلول/سبتمبر 2010. 

انكبّ أركون فيالـ26 من عمره على إعداد أطروحة الدكتوراه حول الممارسات الدينية في منطقة القبائل الكبرى

وضع أركون أكثر من 15 مؤلّفًا ومُنجزًا يندرج تحت عنوان كبير ولافت: "نقد العقل الإسلاميّ". وقد كرّس نفسه حالةً استثنائية لصورة عالم الاجتماع العربيّ الذي لا يتوانى عن مواكبة تحوّلات مجتمعاتٍ كان شاهدًا على بداية انحدارها التدريجي نحو الهاوية، مُستندًا في مواكبته تلك إلى النزاهة والجرأة وكذا العمق، ومُبتعدًا عن الفضاءات الجامعية والأكاديمية الضيّقة نحو أخرى أكثر رحابة، غرز فيها أساسات مشروعه النقدي الموزّع على أكثر من أطروحةٍ أثارت جدلًا ثقافيًا قلّ نظيره بالنسبة إلى أقرانه ممن سلكوا المسار نفسه.

اقرأ/ي أيضًا: محمد أركون.. حرب فكرية على السياجات الدوغمائية

بدأ محمد أركون يؤسّس لمشروعه منذ مطلع خمسينات القرن الفائت، وتحديدًا منذ أن ألقى محاضرةً بسيطة أمام زملائه في جامعة الجزائر تحت عنوان "مظاهر الإصلاح في مؤلّفات طه حسين".

نتيجة تلك المحاضرة جاءت على عكس توقّعات مؤلّف "الإسلام؛ أصالة وممارسة"، حيث أثارت غضب بعض زملائه، بينما قاطعه البعض الآخر، والسبب أنّ المحاضرة التي أعدّها أركون بعد سنواتٍ من الشغف بطه حسين ودراسته في فترات الإجازة، خلص فيها إلى غياب الانسجام في مشروع حسين النقدي والفكري غيابًا تامًّا؛ خلاصة ذهب البعض نحو اعتبارها مسًّا لا بمؤلّف "الفتنة الكبرى" فقط، وإنّما بأفكار تلك الحقبة الزمنية، أي حقبة الشعارات القومية العربية البرّاقة مباشرةً.

نقدهُ لطه حسين ومشروعه في ذلك الوقت، اعتُبر مغامرةً جريئة لمحمد أركون الذي عرف حينها أنّ النقد ليس نزهة، وإنّما معركة تشتدّ بدل أن تضعف مع مرور الوقت. هكذا، قرّر صاحب "العلمنة والدين" خوضها حتّى نهايتها عوضًا عن التراجع أو الانحياز عن مساره، إذ انكبّ في السادسة والعشرين من عمره على إعداد أطروحة الدكتوراه حول الممارسات الدينية في منطقة القبائل الكبرى.

ولكنّ ما آل إليه حال الجزائر بعد إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية سنة 1991، حال دون إكمال أركون لأطروحته، ودفعه أيضًا نحو العودة إلى القرن الرابع للهجرة، حيث سيتوقّف مطوّلًا عند نزعة الأنسنة في الفكر العربيّ والإسلاميّ، مُتّخذًا منها موضوعًا بديلًا لأطروحته عن موضوعه الأوّل، قبل أن تصير الأنسنة فيما بعد شغله الشاغل وكذا جزءًا من مشروعه النقدي الكبير، وعتبته الأولى للاحتكاك بأبي حيّان التوحيدي، الذي طالما أشار الراحل إلى علاقته به بقوله إنّ التوحيدي أخوه الروحي، ومعلّمه الأوّل.

انشغال أركون وشغفه بمؤلّف "المقابسات" الذي أسّس فلسفةً قائمةً على الإنسان بهدف إخراج الذات من انغلاقاتها؛ لم يمنعهُ من اقتفاء أثر فلاسفةٍ آخرين من عصره، حيث ذهب نحو تسليط الضوء على طبيعة الممارسة الفكرية عند مسكويه الذي اعتبرهُ ظاهرةً ثقافية مبكّرة في تراثنا؛ ظاهرة تمحورت بشكلٍ خاص حول الإنسان، واتّخذتهُ نقطة وصول ونقطة انطلاق في آن معًا.

ورأى أركون في دراسته لهذه النظرية أنّه كان يمكن لها أن تفضي إلى نوعٍ من العلمنة والحداثة، ولكنّ انكفاءها السريع والتراجيدي بحسب وصفه لها، حال دون تحقيق ذلك. وبناء على ما سيقدّمه مؤلف "نحو نقد العقل الإسلامي" فيما بعد، يُمكن القول إنّ تلك النظرية أغرته بمراجعة انبعاثات الأنسنة التي بدأ صعودها في النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، تزامنًا مع وصول البويهيين إلى موقع السلطة، وكذا ضعف هيبة الخلافة مقابل تنامي الدور الذي يلعبه العقل الفلسفي كسبيلٍ وحيد لتجاوز الصراعات المتكرّرة بين الطوائف والمذاهب والعقائد بتراثاتها العرقية والثقافية. 

الأنسنة عند المفكّر الجزائريّ الراحل، تعني خلق فضاء أرحب للنقد والتلاقي الثقافي، أي التأسيس للتعدّد المتولّد أساسًا من الوحدة، والقائم أيضًا على التثاقف بين الحضارات والإثنيات. ولكنّ تبلور وظهور ما أسماه أركون بـ "السياسية السنيّة التقليديّة"، وإنتاجها مسلكًا دوغمائيًا قيّد التعدّدية العقائدية، وأوقف مسيرة هذه النزعة التي خفّ بريقها منتصف القرن الخامس الهجري، تزامنًا مع سقوط البويهيين، وبسبب التمذهب الذي اضمحّلت تحت وطأته.

كان أركون قد وضع لطروحاته هذه حول الأنسنة وغيرها محاور أساسية أهمّها إمكان التواصل بين الجماعات الثقافية والطائفية. عدا عن مدى معرفة أهل الأديان التوحيدية بعضهم للبعض الآخر، مُرجعًا في الوقت نفسه أسباب غياب الأنسنة في الدول الإسلامية إلى غياب العقل النقدي القادر، إن وُجد، على ربط العمل السياسي بالأخلاق الإنسانية، وخلق فضاء مناسب للتعمّق الروحي عبر تجاوز الحواجز الدينية.

وتُحيل هذه المقولات بطبيعة الحال إلى القارّة العجوز التي فصلت بين ما هو ديني وسياسي، ولكنّها، وبحسب أركون، لا تزال تعيش بدورها أزمةً مع الأنسنة التي انفصلت عنها بعد إنتاجها ما بعد الثورة الفرنسية نظامًا رأسماليًا متوحّشًا يولّد الحروب خارج مجاله الجغرافي بحجّة محاربة الشيوعية أو الإرهاب الإسلامويّ.

محمد أركون

صاحب "قراءات في القرآن" كان قد طرح في منجزاته حول نزعة الأنسنة في الفكر العربي والإسلامي معًا، وعبر تناوله ودراسته لكتب أبي حيّان التوحيدي، ومسكويه، وأبي الحسن العامري؛ تساؤلًا حول البيئة والشروط اللازمة لنشوء موقفٍ إنساني تحتاج إليه المجتمعات الإسلامية التي تعيش عودة متوحّشة ومخيفة إلى العامل الديني أكثر من أي وقتٍ مضى.

ووضع في الوقت نفسه سبلًا للنجاة أو الخلاص تمثّلت في الدعوة إلى نوعٍ من الفلسفة الديمقراطية القادرة على تعويض الأضرار التي لحقت بالمسارات الأصلية، بالإضافة إلى دراسة الدين بموازاة تعليم التاريخ المقارن للأديان كطريقة أو وسيلة لمعرفة أوجه الشبه والاختلاف بينها، وكذا إلى قراءته، الدين، قراءة تاريخية وليست تبجيلية، ومنع تعليم الدين على طريقة القرون الوسطى والطرق التقليدية التي يتحوّل فيها إلى أيديولوجية ظلامية بحتة، تخرج عن المسارات المعروفة إلى أخرى دموية وعنيفة وخالية من الأخلاق الإنسانية المُكمّلة والمُتمّمة لصورة أي ديانةٍ كانت، مؤكّدًا هنا أن العلمنة التي يدعو إليها في المجتمعات الإسلامية ليست مضادّة للدين.

اشتغالات أركون على الأنسنة لا تنفصل عن سياق مشروعه الرئيسي، أي نقد العقل الإسلامي الذي لامس فيه مناطق محرّمة وقارع لأجله المسكوت عنه في التاريخ الإسلامي الذي اعتمد في قراءته لنصوصه التأسيسية على المناهج الغربية الحديثة، ووضع الظاهرة المدروسة ضمن سياقها، والهدف دائمًا محاولة إخراج الإسلام من الدوغمائية التي تقيّده من جهة، والبحث عن الأسباب التي أعاقت محاكاة الإسلام للعصر، مشيرًا إلى أنّ الأمر ليس مرتبطًا بالتفسيرات الخاطئة للنص المقدس، وأنّ الإسلام لا يتناقض مع العلمانية، باعتبار أنّه عاشها واختبرها أمرًا واقعًا منذ وضع أواصر وأساسات الدولة الأموية، وبلغت ذروتها مع الفكر المعتزلي.

محمد أركون

في البحث عمّا دفع المفكّر الجزائريّ الراحل لخوض غمار الفكر ومعاركه في مجتمعاتٍ دوغمائية، نجد أنّه الواقع المأزوم لهذه المجتمعات نفسها التي لم يتوان عن الردّ على بعض المستشرقين الذين شوّهوا صورتها، وكذا صورة الإسلام والتعامل معه بوصفه رمزًا للعنف. أركون وجّه ضربات موجعة في مؤلّفاته للاستشراق الذي عاب عليه اقتصاره على تحقيق النصوص والدرس البارد لحوادث التاريخ والاكتفاء بالتحرّي في صدقيتها بدل التركيز على آثارها المجتمعية.

 رحل محمد أركون  قبل تسع سنواتٍ تاركًا وراءه إرثًا علميًا ومشروعًا متكاملًا عنوانه: نقد العقل الإسلامي

لسنا بصدد بصدد تقديم أية قراءةٍ في فكر محمد أركون، لأنّ الأمر ليس بهذه السهولة، ولأنّه يتطلّب في الأساس عملًا ضخمًا يوازي ضخامة ما أنجزه المفكّر الجزائريّ على مدار أكثر من 30 عامًا، وفي أكثر من 18 مؤلّفًا طعن فيها في مشروعية الأنظمة السياسية العربية التي تُحاول، أو نجحت، في استمداد حضورها من اللعب على وتر الدين والمقدّس، ولكن بالطريقة التي تراها مناسبة لاستمرار حكمها وبقائها، بمعنى أنّها منعت الخوض في أية نقاشاتٍ حرّة حول النص القرآني، موجّهةً حرّية المعتقد لخدمة مصالحها فقط.

إنّها مجرّد مقالة استعادية لصاحب "نحو تاريخ مقارن للأديان التوحيدية" الذي رحل قبل تسع سنواتٍ تاركًا وراءه إرثًا علميًا ومشروعًا متكاملًا عنوانه: نقد العقل الإسلامي.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

صادق جلال العظم.. الحوار لا يزال مفتوحًا

الإبداع عند عتبات الموت.. تأملات في الأسلوب المتأخّر