13-يوليو-2018

إدوارد سعيد

قليلة هي الكتابات حول كتاب "الأسلوب المتأخر" (ترجمة: فوّاز طرابلسي، دار الآداب ، 2015) للمفكر والناقد الفلسطيني إدوارد سعيد، والكتاب يُعد من أعمال سعيد الأخيرة، والذي خصصه للكتابة عن النصوص المتأخرة، أي عن علاقة الكتابة والإبداع الفني باللحظات الأخيرة من الحياة. إدوارد سعيد الذي اكتشف إصابته بسرطان الدم، لم يتوقف عن الكتابة، بل أدرك بأنّ المرض هو أيضا تجربة من تجارب الحياة، مثلما أنّ الموت لحظة إنسانية وتاريخية يصعب تجاوزها أو نكرانها. أراد سعيد أن يفكك العلاقة بين الشيخوخة، المرض، الموت بأساليب الفنانين والمبدعين، والموضوع على فرادته، فتح مجالًا مختلفًا للكتابة النقدية بوصفها وعيًا بأثر الجسد على الأساليب الإبداعية.

الجسد والأسلوب

إنّ الذات الواعية، كما فسّرها إدوارد سعيد في كتابه "الأسلوب المتأخّر" هي التي تفكّر في نفسها، وتنكبّ على عملية إعادة خلق الذّات، واكتشافها ضمن علاقاتها المتحوّلة بالتّاريخ. الذّات التي تخترع نفسها بنفسها، هي نفسها التي ستخترع العالم الذي تنتمي إليه. إذ ثمّة مسلك تاريخي يفضي إلى ذلك الوعي الذاتي بقدرة الذات على توليد ذاتها، وكتابة تاريخها.

لم يكن إدوارد سعيد أوّل من استخدم مصطلح الأسلوب المتأخّر، فقد استعمله قبله الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو في مقال كتبه عام 1937

لقد استلهم إدوارد سعيد، هذا المبدأ، أي مبدأ صناعة الذات لذاتها ولتاريخها، من أفكار غومباتيستا فيكو، ومن أفكار ابن خلدون.

اهتمام الذات بذاتها، يبدأ من وعيها بالجسد، فهو مكوّن تاريخي، يتفاعل مع الوسط ومع الزمن. إنّ الفكرة الأساسية التي أراد سعيد الاشتغال عليها هي أنّه لا يُمكن فصل جسد الفنان عن أسلوبه الفني والإبداعي. يظهر الفن بوصفه إبداعًا جسديًا أيضًا، ويذهب إلى أنّ أساليب الإبداع تختلف من عُمر إلى عُمر، لهذا فالذي يقرأ الأساليب المتأخرة للمبدعين، سيكتشف أثر المرض أو الشيخوخة أو الاحتضار على أساليبهم.

الحديث عن الجسد وعلاقته بالإبداع الفني والأدبي، دفع بإدوارد سعيد إلى وضع فاصل أبستيمولوجي بين عالم الطبيعة والتاريخ الإنساني؛ فالجسد البشري ينتمي إلى عالم الطبيعة، وحين نتحدّث عن الجسد فإننا نقصد كلّ ما يتصل بوضعه البيولوجي: وظائفه، نموه، صحته، سقمه، موته... إلخ. هذه المحطات ليست مجرد مراحل مُحايدة بلا أي تأثير على نفسية الإنسان أو على طريقة تفكيره ونظره إلى الأشياء، بل لها دور كبير في صياغة تصوراته؛ فالإبداع في حالة المرض غير الإبداع في حالة الصحة (تجربة جميل حسين البرغوثي نموذجا، السياب كذلك... إلخ)، كما أنّ الإبداع في مرحلة الشباب يختلف عن الإبداع في مرحلة الشيخوخة، لأنّ شيخوخة الجسد تعني الإقبال على تجربة الموت مثلًا.

أما بخصوص التاريخ الإنساني فهو كل ما يصدر عن الفهم الإنساني، أي هو كيفية نظر الإنسان إلى الطبيعة، بما فيها جسده الخاص، هذا البعد هو بعد إعطاء معنى للجسد، وللحياة، وللوجود. وعالم التاريخ هو النطاق الذي أراد إدوارد سعيد الاهتمام به.

ما طرحه صاحب كتاب "الاستشراق" ينتمي إلى نسق فلسفته العلمانية، التي تقوم على هاجس فهم آليات صناعة الذات لذاتها. الذات التاريخية لا تنتمي إلى كون آخر متعال، فهي نتاج ثلاث مراحل أساسية، كلّ مرحلة تمثّل في ذاتها إشكالًا فلسفيًا كبيرًا:

أ) البداية بوصفها توطينا لمشروع ما

تتجسّد البداية عند إدوارد سعيد في لحظة الولادة أو بتعبير فلسفي في (لحظة الأصل)، ويقصد بالأصل الكيفية التي يبدأ بها مسار معيّن أو حياة ما أو ظاهرة معينة. وفي سياق تحليله لهذا المفهوم استحضر كتابه الأول "بدايات: النية والمنهج"، الذي يُعتبر بمثابة ميلاد تجربته النقدية، وقد خصّصه للحديث عن الطريقة "التي يضطر بها العقل أحيانًا إلى تعيين استرجاعي لنقطة بداية لذاته، بحيث تبدأ الأشياء في معناها الأكثر بدائية مع الولادة" (ص 34 – 35) نكتشف في هذا الكتاب إدوارد سعيد الشاب، الذي كان متحمسًا للنظريات النقدية الحداثية، لا سيما أنّه كان تحت تأثير سحر البنيوية، ونظرياتها النصية، فكان من المبشّرين الأوائل بها في أمريكا، لأنّه وجد فيها مسلكًا معرفيًا ونقديًا بإمكانه تحرير المعرفة النصية والنقدية من سلطة الأيديولوجيات.

كان رهان الرواية هو خلق عالم جديد ومجتمع جديد ووظيفة جديدة للأدب

تساءل إدوارد سعيد عن الظلال الدلالية للفظة الولادة؛ خاصة في مجال المعرفة الإنسانية. فما الذي يصادف بداية حقل معرفي ما؟  وكيف تكون بداية فن من الفنون، أو جنس من أجناس الأدب؟ ولأجل توضيح أبعاد سؤاله، اتخذ إدوارد سعيد من الرواية مثالًا مهما؛ فهذه الأخيرة وُلدت بين أحضان البرجوازية الأوروبية، وتحديدًا في لحظة أفول عصور إقطاعية أطرتها – فنيًا – الأشعار الملحمية، والبطولات الملحمية التي تتغنى بماضي الأمة.

اقرأ/ي أيضًا: بين إدوارد سعيد والمسيري.. تأملات في فقد الحرية

ولادة الرواية كانت أيضا بمثابة ولادة الفرد المغامر، والقلق، والمسكون بروح السؤال، المشرئب نحو المجهول. لقد كان رهان الرواية هو خلق عالم جديد ومجتمع جديد ووظيفة جديدة للأدب. وبالعودة إلى السؤال المركزي الذي طرحه سابقًا: ما معنى تعيين بداية ما؟ يجيب سعيد بأنّ تعيين البداية هو "توطين مشروع ما" (ص 36)، والتوطين هو تعزيز أو منح قوة لوجود الشيء الذي وُلد توًا، بمعنى منحه سلطة ما.

أراد سعيد أن يصل إلى هذه النقطة بالذات، حيث تتحوّل البداية إلى سلطة مرجعية؛ هي سلطة الأصل، التراث، الماضي. كلّ بداية هي أصل ما، ومن سيمات الأصول أنّها متعالية. هل هذا بالذات ما يريده؟ أقصد هل يبحث عن توطين البداية حتى تغدو مركزا مقدسًا؟ لا أظن ذلك شخصيًا، والسبب أنّ استعادة البداية يعني معرفة كيفية تشكّل الفنّ أو الأدب أو أي تجربة إنسانية، بوصفها تجربة تاريخي متحولة، لا تتكرر في ظروف مغايرة.

ب) معضلات التطوّر

طرح إدوارد سعيد مجموعة من المفاهيم: الجيل، النضج، الكائن الحي، التطوّر. روائيًا، تبرز هذه المفاهيم في الرواية التربوية، والرواية المثالية... إلخ، حيث تحضر تصورات داروين حول أنماط النشوء والتطور التي تمنح للقارئ طريقة لمقاربة هذا النوع من الروايات.

تتطور الروايات وفق خط سلالي تحدد معايير النوع الأدبي الذي تفرضه مرحلة تاريخية معينة، لكن وفي خضم عملية التطور، قد يحدث أن تظهر روايات شاذة تخرج عن المسار الطبيعي لتطور النوع الروائي، ويذكر سعيد على سبيل المثال رواية الجريمة والعقاب لدويستوفسكي والمحاكمة لكافكا، وما يميز هذا النوع من الروايات، هو أنّها "تشذّ عن التعاقد الضمني المستمر على نحو مدهش بين فكرة أجيال الإنسان المتعاقبة ( كما عند شكسبير) والتأملات الجمالية لتلك الأجيال أو عنها" (ص 37).

الذّات التي تخترع نفسها بنفسها، هي نفسها التي ستخترع العالم الذي تنتمي إليه

روايات خالفت روح عصرها، (نتذكر رواية يوليسز لجويس التي كُتبت لتقرأ في عصر آخر، فهناك روايات لم تُولد في الوقت المناسب!).

اقرأ/ي أيضًا: رسائل إدوارد سعيد إلى صادق جلال العظم

ج) فكرة النهاية/ الفترة الأخيرة أو المتأخرة

ما هو تأثير نهاية العمر على لغة وأسلوب وأفكار الفنانين الكبار.. أي ما هي خصوصيات "الأسلوب الأخير"؟ هي الفترة المتأخرة من الحياة، يصفها إدوارد سعيد بأنّها "فترة تحلّل الجسد، واعتلال الصحة، أو حلول عوامل أخرى تحمل إمكانية النهاية قبل الأوان حتى لمن لم يتقادم به العمر" (ص 39)، ثم يتساءل: هل أنّ المرء يزداد حكمة مع العمر؟ وهل أنّ ثمة مؤهلات فريدة في الرؤية والشكل يكتسبها الفنانون بسبب العمر في الفترة المتأخرة من سِير حياتهم؟ (ص 39).

سيتحدث عن مسرحيات متأخرة لشكسبير مثل العاصفة أو حكاية شتوية، وعدوته إلى القصة الغرامية. ثمّ عن مسرحية "أوديب في كولونوس" لسوفوكليس، التي صورت بطلًا هرمًا بلغ درجة من القداسة والشعور بالثبات.

شخصيًا تساءلتُ: ماذا كان يقصد سعيد بالتأخر الفني؟ وهل هناك فرق بين الأسلوب الأخير والتأخر الفني؟؟ ربما كان يقصد أنّ بعض التجارب الفنية التي ألفها أصحابها في نهاية العُمر، تأثرت بحالات نفسية هي من سيمات هذه المرحلة العمرية مثل  الإضطراب والقلق والوجوم. لقد اهتم إدوارد سعيد بمثل هذه التجارب، لأنها جعلته يكتشف معالم الأسلوب المتأخر، وهي القلق والعبث والسؤال اللاهب". أود أن أتبحر في تجربة الأسلوب المتأخر الذي يتضمن توترًا متنافرًا ومضطربًا، كما يتضمن، فوق ذلك، نزعة إنتاجية عديمة الجدوى تسير بالاتجاه المعاكس عمدًا". (ص 40).

الأسلوب المتأخر في نظر أدورنو

لم يكن إدوارد سعيد أوّل من استخدم مصطلح الأسلوب المتأخّر، فقد استعمله قبله الفيلسوف الألماني ثيودور أدورنو في مقال كتبه عام 1937، وقد خصّص المقال لتحليل أسلوب بيتهوفن المتأخر، من خلال أعماله الموسيقية الأخيرة. لقد فسّر أدورنو التأخر بأنه "فكرة البقاء على قيد الحياة فيما يتعدى المقبول والطبيعي. إلى ذلك، يتضمن التأخر فكرة تقول إن ما من أحد يستطيع أن يتعدى التأخر أبدًا، ولا هو يستطيع التعالي عليه أو تجاوزه، او الإفلات منه؛ كلّ ما يستطيعه المرء هو أن يعمّق التأخر" (ص 47). يظهر التأخر بوصفه حتمية طبيعية أو قدرًا لا مفر منه، ولا يمكن للإنسان الانفلات من قبضته. ستكون مهمة الفنان، هنا، ليس التفكير في تجاوز ما لا يمكن تفاديه، بل في تعميق هذه التجربة. ويمكن أن نفسر ذلك بالقول بأنّ الفن هو ابتكار شكل ما للتأخر.

ويضيف أدورنو بانّ التأخر "هو أن تبلغ النهاية، بكامل وعيك، طافحا بالذاكرة، ومدركا أيضا لحاضرك إدراكًا عميقًا" (ص 50)، ندرك في تصور أدورنو روح المجابهة، بدلًا من روح الاستسلام للمشاعر السلبية التي تنتاب الفنان في أخريات حياته. الأصل هو أن تعاش النهاية كتجربة ضرورية، ودون اللجوء إلى أي شكل من أشكال الحسرة أو الندم أو التوجس. هذا سيفسّر عند بعض الفنانين، انفجار طاقتهم الإبداعية في عمر متأخرة، كأنّ التحديق في عيون الموت تحفّز فيهم روح الإبداع.

كتب سعيد مُعرّفًا جينيه: "كان عاشقًا للعرب، وهو أمر لم يعتده العديد منا من كتاب ومفكرين غربيين وجدوا العلاقة الخصامية مع العرب أشد ملاءمة"

ويصل أدورنو إلى الربط الذكي بين التأخر والتفكير النقدي؛ فهذا الأخير يمثل قوة احتجاج، وقد كتب في إحدى مقالاته الأخيرة: "المفكّر النقدي الذي لا يعذّب ضميره، ولا يرهبه أحد إلى الفعل، هو في الحقيقة المفكر الذي لن يذعن" (ص 52)، التأخر هو تموقع في جهة التفكير النقدي الذي لا يرضى لا بالتعليب ولا بالتحكم. إنّ التأخر هو نوع من المنفى الاختياري. "أن تكون متأخرًا يعني إذًا أن تتأخر عن (وأن ترفض) العديد من المكاسب الموفِّرة للراحة داخل المجتمع، وليس أقلّها شأنًا أن يقرأك وأن يفهمك بسهولة عدد كبير من الناس" (ص 62). التأخر في الأخير هو موقف، وهو كذلك قرار؛ هو موقف ذو طبيعة نقدية، يثور على بعض المكاسب الاجتماعية التي يمكن أن يتحصل عليها الفنان في حياته، لكنها تلعب دورًا في كبت جماع ثوريته، ونقديته. لكن التحدي الكبير الذي يمكن أن يواجهه هو: طبيعة أسلوبه، هل يمكن للقراء فهم أسلوبه الأخير؟

اقرأ/ي أيضًا: تصوير القدس في الحرب.. صورٌ من سنة 1948

الأسلوب المتأخر عند جان جينيه: تفكيك الهوية الإمبراطورية

كتب سعيد مُعرّفًا جينيه: "كان عاشقًا للعرب، وهو أمر لم يعتده العديد منا من كتاب ومفكرين غربيين وجدوا العلاقة الخصامية مع العرب أشد ملاءمة لهم و – وهذه هي العاطفة المميزة التي تسِم آخر أعماله الأساسية. ألّف كتابيه الأخيرين بما هما عملان ملتزمان جهارًا، "الستائر" ملتزمة بتأييد الثورة الجزائرية في ذروة النضال المناهض للكولونيالية، و"الأسير العاشق" تعبير عن دعمه للمقاومة الفلسطينية من أواخر الستينيات إلى حين وفاته العام 1986، بحيث لا يجد المرء أي مجال للشك في موقف جينيه" (ص 151).

في عام 1982 كتب جينيه نصه عن مجازر صبرا وشاتيلا. وقد عبّر في هذه الفترة عن انجذابه لفلسطين. تميزت هذه النصوص الأخيرة بتفكيكها للهوية الفرنسية – أي فرنسا الإمبراطورية – القوة والتاريخ. كان يرفض منطق الهوية المفروضة. الهوية هي عمل عنيف يقوم على فرض هوية الطرف القوي. لهذا عرّف الإمبريالية بأنها "تصدير الهوية" (ص 157)، اعتبره إدوار سعيد بأنّه مسافر عبر الهويات: "يشبه جينيه ذلك المُذيب الآخر للهويات، أدورنو، الذي يرى أنّ ما من فكر قابل للترجمة إلى أي معادل فكري آخر" (ص 160).

لقد تأثرت لغة جينيه بالفلسطينيين، أو بقضيهم، أصبح لغته انتهاكية وتخريبية. وفضلًا عن ذلك، ما تتمتعه من قدرة على التحدي الشرس للمنظومة الأخلاقية السائدة. كان يعتبر الثورة الفلسطينية انتفاضة ميتافيزقية للمنبوذين والغرباء. حلّل سعيد أسلوب نصيه الأخيرين، واكتشف أنّ النصين مشبعين بصورة الموت، خاصة في كتابه "الأسير العاشق" والذي كتبه وكان يحتضر. تجسد الموت أيضًا في موت الفلسطينيين أيضًا هؤلاء الذين تعارف عليهم. لكنه في الأخير لاحظ أن نصيه الأخيرين ختمهما بذكريات إيجابية عن أم وابنها.