02-أبريل-2021

محجوب عمر (ألترا صوت)

المصري الصعيدي، الفلسطيني العربي، الشيوعي الماركسي، القديس المسيحي، المتصوف المسلم، الشاعر الحساس، المثقف المشتبك، الفدائي المحارب، الساحر بحضوره وصاحب القدرة الخلاقة على النقاش، والحوار حتى مع الخصوم، المصري بين الفلسطينيين والفلسطيني بين المصريين.

بعد خروج محجوب عمر من السجن، لم يتحمل هزيمة 1967 وبدأ في مراجعة أفكاره، كان السؤال الملح لماذا هزمنا؟

رؤوف نظمي ميخائيل عبد الملك صليب، طبيب مصري صعيدي من مواليد بني سويف 1932، التحق بكلية الطب بجامعة القاهرة، في مطلع الخمسينات إذ انضم وهو طالب إلى "كتائب المقاومة الشعبية"، الإطار التابع للحزب الشيوعي المصري لمقاومة المحتل الإنجليزي، أصبح عضو اللجنة مركزية للحزب ومسؤولًا عن طلاب الجامعات، اختار لنفسه الاسم الحركي "محجوب عمر"، ألقت السلطات المصرية القبض عليه لأول مرة في 1954 بتهمة محاولة قلب النظام مع عدد من رفاقه ثم تتالت عمليات الاعتقال حتى عام 1959،حيث تم توجيه ضربة بوليسية شاملة لكل الشيوعيين، حيث قضى محجوب 5 سنوات من عمره بسجن الواحات، وأفرج عنه مع بقية رفاقه الشيوعيين في حملات الإفراج المتتالية سنة 1964 ولكنه أعيد إلى السجن مرة أخرى في العام 1966 ليبقى في السجن حتى لمدة سنة.

اقرأ/ي أيضًا: زكي هللو.. رجل الظل

بعد خروجه من السجن، لم يتحمل هزيمة 1967 وبدأ في مراجعة أفكاره، كان السؤال الملح لماذا هزمنا؟ ظل هو مثل الكثيرين تحت وقع الصدمة التي جعلته يتبنى الفكر الماركسي المقاتل، وهنا مثل انطلاق المقاومة الفلسطينية الرد السريع على انتصار إسرائيل على الجيوش العربية.

كانت حركة المقاومة الفلسطينية بعد هزيمة حزيران/يونيو 1967 تجسيدًا لآمال الكثير من قطاعات الشباب في المنطقة، هنا برزت حركة فتح كأهم فصيل للمقاومة في ذلك الوقت والتي ضمنت في تركيبتها غالبية التيارات والاتجاهات السياسية والفكرية، من يساريين وقوميين ووطنيين وإسلاميين، فقد امتازت بالكثير من المرونة التي جمعت كل تلك الاتجاهات في إطار واحد يوحدها التناقض الرئيسي مع العدو الصهيوني ومحاربته.

اكتشف محجوب عمر أن الحل هو الالتحاق بالثورة الفلسطينية التي بدأت تفصح عن نفسها بعد هزيمة 1967 أكثر فأكثر، قدم على وظيفة بشركة بترول كطبيب بعد أن استقال من وزارة الصحة التي عمل فيها في دمياط بعد ألقي عليه القبض العام 1966، تلك الشركة كان لها فرع بالجزائر حيث سافر إلى هناك وعمل في مستشفى بتلمسان غرب الجزائر، مثلت الثورة الجزائرية مصدر إلهام، بعد الاستقلال كانت قبلة لكل الثوار في العالم، هناك التقى بأبو جهاد في مكتب حركة فتح بالجزائر، وحصل تفاعل سريع بين محجوب وأبو جهاد جعله ينضم بعدها إلى الحركة.

محجوب كماركسي مقاتل جذبته فكرة مناطق الاشتباك المباشر، وكانت الأردن هي المثال الأكثر تعبيرًا لتلك الحالة، خاصة بعد معركة الكرامة 1968 التي كان لها صدى واسعًا، انتقل محجوب عمر إلى الأردن لينظم لقوات العاصفة ويستقر في جنوب البلاد حيث خاض معركة استثنائية هناك، كانت التركيبة العشائرية معقدة للغاية وصعبة، وكان هناك تصور عن استحالة العمل والاندماج في تلك الأجواء، فالنظرة معتمة وسلبية جدًا.

اكتشف محجوب عمر أن الحل هو الالتحاق بالثورة الفلسطينية التي بدأت تفصح عن نفسها بعد هزيمة 1967 أكثر فأكثر

بالرغم من كل شيء استطاع محجوب أن يكسر تلك التابوهات، ويقوم بعمل خلاق في هذا الوسط، يقول عنه رفاقه: "محجوب عمر حالة من الألق كلما كان ناس جنوب الأردن يضيقون ذرعًا من بعضنا يمر محجوب ويعدل البوصلة".

اقرأ/ي أيضًا: إيفا شتال.. سميرة المخيم

ذهب في البداية كطبيب هكذا قدم نفسه للقيادة الفلسطينية، لكن يبدوا أنهم اكتشفوا موسوعية ثقافته السياسية إذ أصبح قريبًا من أوساط القيادة المتمركزة في عمان.

الثورة الفلسطينية افتقدت في بداية انطلاقاتها إلى مثقفين سياسيين ثوريين، محجوب كان مثالًا لهذا النموذج، أصبح حلقة الوصل بين حركة فتح واليسار الأوروبي، خاصة الفرنسي الذي ربطته بهم علاقات قوية، وقد لمع اسمه بحلقات النقاش التي أقيمت في قواعد الفدائيين بضواحي مدينة الكرك صيف 1970، والذي شاركت فيه مجموعات من الشباب من اليساري الأوروبي، في هذا المعسكر الشبابي الدولي ناقش محجوب مع المناضلين والمثقفين الغربيين اليساريين التصور الذي تبنته حركة فتح لإقامة الدولة الفلسطينية الديموقراطية العلمانية.

أصبحت ظروف العمل في الأردن مستحيلة بعد بداية أحداث أيلول الأسود، لكنه بقي محافظًا على نهج أخلافي فريد لم يتخل عنه بالرغم من صعوبة الموقف، وبقي متمسكًا بعبارة لطالما رددها "لن نطلق النار على الجماهير حتى لو أطلقوا النار علينا".

بعد تفاقم الأوضاع التي وصلت إلى نقطة اللاعودة، انتقل إلى عمان وذلك بعد أن غدت العاصمة الأردنية مركز الثقل بالمواجهة بين النظام الملكي والمقاومة الفلسطينية، ولأن ظروف الصراع الجديدة في الأردن لم تعد تسمح باستمرار تجربة العمل الفدائي في جنوب الأردن التحق بمستشفى الأشرفية في عمّان، وكتب تجربته تلك في كتيب صدر في بيروت العام 1971 تحت عنوان "قصة مستشفى الأشرفية"، والتي كتبها استنادًا إلى تجربته في عمان، وهي عبارة عن وصف إنساني دقيق وعميق للعمل في ظروف كانت شبه مستحيلة تحت القصف والخطر الداهم وقلة الحيلة، قصص مأساوية سجّل عمر محجوب يومياتها بحساسية: "في الناحية الأخرى من الممر لفظ الشاب الذي تخرج من جامعة القاهرة هذا الصيف أنفاسه بين ذراعي أبيه. ركع الطبيب بجواره وأخذ يضغط على صدره لكي يستمر تنفسه. كان يدرك أن لا فائدة، ولكنه كان يريد أن يصنع شيئاً من أجل الأب.

ـ اتركه يا حكيم... خلاص.

ـ لسه يا والدي.

ـ لا هو الأول ولا هو الأخير.

ـ الصبر يا والدي

ـ من سنة تسعة وعشرين واحنا بندفع.

ـ تهون يابا.

ـ روح يا بني مع السلامة مع السلامة.

وأخذ الأب بهدوء يسبل جفون ابنه وهو يتمتم: روح يا ضحية حسين والمجالي... روح... عشر سنين وأنا منتظرك ما فرحت بيك... مع السلامة. وبجواره جلس الطبيب صامتًا. قام الأب وساعد الطبيب على النهوض ولم يطلب إلا أن يعطى فرصة لدفن ابنه في مكان أمين. ولكن أين المكان الأمين؟ بعد أربع وعشرين ساعة كان لا بد من رفع جثته، وعندما رُفعت سار خلفها الأب، وأودعها تحت الأشجار في هدوء... وتحت القصف ".

محجوب عمر حالة من الألق كلما كان ناس جنوب الأردن يضيقون ذرعًا من بعضنا يمر محجوب ويعدل البوصلة

دافع محجوب ورفاقه عن المستشفى حتى سقوطه في 26 أيلول/سبتمبر 1970، اعتقل في تلك الأحداث لكن أفرج عنه مع باقي المقاتلين بعد الاتفاق على سحب قوات الثورة من الأردن وخرج الى لبنان، وتحديدًا إلى بيروت، هناك سطع اسمه باعتباره مثقفًا ثوريًا وسياسيًا واسع الاطلاع، واعتمد كموجّه سياسي لقوات العاصفة بعد أن أصبح الثقل العسكري والسياسي والمؤسساتي لمنظمة التحرير الفلسطينية في لبنان، إذ بدأت تنشأ وتقيم قواعدها العسكرية في الجنوب اللبناني على حدود فلسطين المحتلة.

اقرأ/ي أيضًا: أنيس دولة.. جريمة حرب إسرائيلية

محجوب عمر أحد الذين أسّسوا لمرحلة مركز التخطيط الفلسطيني في لبنان، وكان من واضعي الخط السياسي الاستراتيجي لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولمركز التخطيط فضل كبير في إعداد الخطاب التاريخي الذي ألقاه ياسر عرفات في الأمم المتحدة في تشرين الثاني/نوفمبر 1974. وقد كتب الخطاب محجوب عمر ومنير شفيق ونبيل شعث وحرّره محمود درويش.

محجوب عمر حالة فريدة شديدة التواضع، إنسان غير مدعٍ أبدًا، كان طبيبًا يعالج المرضى في المخيمات، على تواصل مباشر مع الأهالي يقيم معهم يعرف مشاكلهم ويحاول أن يساهم في حل تلك المشاكل، كان أيضًا دائم الحضور وقريبًا جدًا من قواعد الفدائيين أين يقضي أوقاتًا طويلة مع المقاتلين في الجنوب يجمع وينظف ملابسهم ويغسلها، يطبخ لهم. هو الوحيد الذي لم يملك سيارة من كل القيادات الفلسطينية، يمكن أن يقال عنه إنه ربى الجيل الثاني من حركة فتح والمقاومة الفلسطينية، إذ فرض احترامه عليهم، إنه صاحب بصمة في حياتهم وجميعهم لهم ذكرى خاصة مع محجوب ويحفظ قصة ما عن علاقته به، كان يصر على أن الفدائي يجب أن يكون صافيًا وسلوكه رفيعًا، ويجب أن يكون مثالًا لمحيطه وأن لا يكون مترفعًا، الفدائي ليس نخبويًا بل هو ابن الشعب ويجب أن يمارس حياته مثل الشعب تمامًا، كان محجوب الجسر الحقيقي بين الفكر والبندقية، مما يعني أن البندقية دون فكر هي قاطعة طريق، لم يكن سلوكه هذا عابرًا أو مجرد مظهر بل كان ذلك جزءًا من عاداته اليومية، حتى وقت تفجير مركز التخطيط بعبوة في سيارة مفخخة حيث استشهد وأصيب العشرات، لم يهرب بل شارك ميدانيًا بنقل الجرحى للمستشفيات، بالمقابل ظل حريصًا على تدوين كل تلك اللحظات، كتب عن العاملين في المركز، عن الشخص الذي كان يوزع تقارير المركز، والذي استشهد ودمه على أحد تلك التقارير، وإصراره على فكرة إعادة طباعة التقرير والدماء عليه، وبالفعل وزع التقرير مجددًا وصورة الدماء موجودة عليه.

جزء من تركيبة محجوب عمر أنه رجل ظل يعشق العمل الميداني ويجيد العمل في المطبخ السياسي، ولكن لا يريد أن يكون في الواجهة، وبالرغم من علاقته المباشرة والقوية مع أبو عمار وأبو جهاد إلا أنه لم يبحث عن الأضواء بتلك العلاقة، كان أبو عمار يكلفه بالكثير من المهام ويسأله عن الكثير من القضايا لبلورة موقف سياسي منها، كان يختلف مع القيادة في بعض من تلك المواقف، خاصة في المواقف التي تتعلق بالحرب الأهلية اللبنانية، لكنه كان يلتزم بالخط والموقف الرسمي ولا يخرج بالانتقادات إلى العلن لاعتبارات شتى.

في صيف العام 1982، كان الغزو الإسرائيلي للبنان وكما توقع محجوب وصلت الدبابات إلى بيروت التي أخضعت لحصار مرير وقاس، وبعد صمود بطولي خرجت قوات الثورة الفلسطينية من بيروت ومعها محجوب، ليكتب شهادته التاريخية، والتي صدرت في كتاب بعنوان "الناس والحصار" تحدث محجوب عن الناس العادية والظروف القاسية التي كانوا تحت رحمتها، وهم في حالة حراك مستمر دون أن يكون لهم خيار سياسي معين، لقد وجد في هؤلاء المحاصرين نموذجًا إنسانيًا رائعًا، كتب مقدمة كتاب "تحقيق حول مذبحة صبرا وشاتيلا" للصحفي الإسرائيلي أمنون كابليوك الذي ترجمته زوجته منى عبد الله، جاء فيها: "تنزع عن الضحايا صفة المجهول لتصويرهم في جهدهم البسيط اليومي المتراكم ثمرة العبقرية التلقائية للمظلومين العزل الذين يهزمون بها الخوف ويعيدون بناء الحياة فوق أنقاض الحياة".

محجوب عمر أحد الذين أسّسوا لمرحلة مركز التخطيط الفلسطيني في لبنان، وكان من واضعي الخط السياسي الاستراتيجي لمنظمة التحرير الفلسطينية

غادر محجوب عمر بيروت مع منى ووصل إلى القاهرة.

اقرأ/ي أيضًا: زياد الحسيني.. الفدائي الذي حكم غزة ليلًا

لم تكن القاهرة محطة استراحة بل واصل المهمة التي بدأها، فتح مكتبًا في شارع القصر العيني وهو عبارة عن ورشة عمل كبيرة، تعمل لصالح مركز التخطيط الفلسطيني، عمل معه مجموعة شباب وتلك ميزة محجوب، العمل مع الشباب، كانت تتم ترجمة كل المقالات السياسية والاستراتيجية والدراسات التي تصدر في العالم وبمختلف اللغات وكان يصدرها في كراسات صغيرة عن مركز التخطيط، كما أسّس مكتبة فلسطينية تعد من أهم المكتبات في مصر، وعمل على رصد وتوثيق بدايات الانتفاضة الفلسطينية التي انطلقت في كانون الأول/ ديسمبر 1987 وبالتعاون مع أبو جهاد قام بصياغة الخطاب الجماهيري للانتفاضة.

بالإضافة لعمله السياسي كان محجوب ينشر مقالًا أسبوعيّا في جريدة "الشعب" المصرية بطلب من صديقه ورفيقه الصحفي عادل حسين. كما كان يكتب في نفس تلك الفترة مقالًا أسبوعيًا في جريدة "القدس العربي" يتابع فيه التطورات المتلاحقة بالأراضي المحتلة، وحتى بعد أن تمكن منه المرض وأصيب بالشلل كان يملي مقالاته على زوجته حين عجزت يده.

كرمه ياسر عرفات عام 2004 بتقليده وسام نجمة القدس وهو أرفع وسام فلسطيني، تنقل زوجته منى عبد الله عن حوار سابق دار قبل سنوات وقت زيارة أبو عمار لمحجوب: "أنت يا محجوب قدمت الكثير لفلسطين"، فكان رده بلهجته العامية المحببة: " فلسطين إدتنا حياتنا خلت كثير ناس يتقابلو ويتفاعلو يحبو بعض ويكرهوا بعض".

واظب محجوب عمر على كتابة مقالات أسبوعية، وبعد أن تمكن منه المرض وأصيب بالشلل راح يملي مقالاته على زوجته

توفي محجوب عمر بمستشفى فلسطين بالقاهرة يوم 17 نيسان/أبريل 2012 بجلطة دموية، كانت قد أثرت عليه وغطى نعشه بعلم مصر وعلم فلسطين كما يليق به.

اقرأ/ي أيضًا: أبو صالح.. الحالم الذي أضاع الطريق

ابن فلسطين ونصيرها صاحب النظرة المتفائلة على الدوام بكل ما تكتنز من نضج وحدس معرفيّ حالة نادرة طوى سنوات عمره مكافحًا ومناضلًا، أصبحت سيرته تروى بكل المحطات التي مر بها وناضل من أجلها حكاية للمستقبل.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حنا ميخائيل.. تاريخ لا يمضي

سهيلة أندراوس.. رابعة الأربعة