02-سبتمبر-2023
التطبيع مع إسرائيل، الربيع العربي

بقدر ما كان الربيع العربي خريف نتنياهو وإسرائيل، فقد تحول فشله إلى ربيع تل أبيبي يزدهر فيه التطبيع في المنطقة (Getty)

في إسرائيل يتحدثون عن "إحراج دبلوماسي" وفشل لوزير الخارجية الإسرائيلي إيلي كوهين في التعاطي مع لقائه في وزيرة الخارجية الليبية نجلاء المنقوش، قبل أسبوع في إيطاليا، مما يعني "إبطاء" أو "عرقلة" مشروع التطبيع مع طرابلس، أقله في الفترة الحالية.

أمّا في شوارع ليبيا، فإن المشهد كان مختلفًا عن تل أبيب وروما، فقد انطلقت مظاهرات عفوية ضد اللقاء مع وزير الخارجية الإسرائيلي، ساهمت في الضغط على الحكومة الليبية التي تراجعت تدريجيًا عن سرديتها بشأن اللقاء، بداية من "لقاء عابر بين المنقوش وكوهين"، ومن ثم إحالة وزيرة الخارجية إلى تحقيق مع إيقافها عن العمل، وصولًا إلى إقالتها بعد خروجها من ليبيا، في خطوة بدت منسقة مع رئيس الوزراء عبد الحميد الدبيبة، الذي تجمع كافة وسائل الإعلام العبرية والغربية، على درايته باللقاء ومنح الموافقة عليه، رغم محاولته التستر المسرحي على ذلك بإعلان إقالة المنقوش من سفارة السلطة الفلسطينية في طرابلس (لم يجد مكانًا أفضل من ذلك؟)، فيما تحولت المنقوش، إلى ضحية للدبيبة وكوهين.

القول إن نجاح ثورات الربيع العربي كان سيقضي على فرص التطبيع مع إسرائيل، لم يكن ادعاء حالمًا أو بعيدًا عن الواقع؛ كما أن التقاطعات بين الاستبداد والاستعمار أكدتها مخاوف نتنياهو التي عبر عنها في ذورة الثورات العربية

بعد الكشف عن اللقاء، أجمعت التقديرات الإسرائيلية على أن المزاج الشعبي العربي لن يقبل التطبيع مع إسرائيل -وهو ما نعرفه جميعًا دون الحاجة لهذه التحليلات-، وأن العلاقات التطبيعية التي عقدت لم تتحول إلى علاقات على مستوى شعوب، مستشهدة بالتطبيع المبكر مع مصر والأردن، ولم تكن الاستثناءات التي حصلت على مستوى "الحفاوة" و"الحماس" في استقبال التطبيع مع إسرائيل، كفاية لإقناع التحليلات الإسرائيلية بأن هذه النماذج ستعمم عربيًا.

كما أشارت تحليلات إلى أن الفضح العلني للقاء من قبل كوهين، الذي يحاول تسجيل إنجاز في سيرته الذاتية، قد يلحق الضرر بـ"محاولة إسرائيل إقامة علاقات سرية مع دول عربية وإسلامية"، وبالطبع ضرورة انفصال هذه المحادثات عن القضية الفلسطينية.

يمثل اللقاء مع المنقوش ذورة طموح كوهين وموظفه رونان ليفي (ماعوز)، بحسب تقرير في صحيفة "هآرتس": "عُلّق لوح في مكتب الوزير (كوهين) عليه أسماء دول عربية وإسلامية في آسيا وأفريقيا، وضعت هدفًا لسياسته، بما في ذلك السودان والصومال والنيجر ومالي وجزر القمر وجزر المالديف والسعودية وليبيا، وحتى الآن لم تقم أي منها علاقات دبلوماسية مع إسرائيل".

getty

لوّح كوهين هو هدف الصهيونية في المنطقة، والذي عبر عنه بـ"الأرض مقابل السلام" وصولًا إلى "السلام مقابل السلام"، وتحقيق اندماج للمستوطنة الكبيرة إسرائيل المزروعة في منطقتنا. ورغم الحماس الإسرائيلي الكبير للتطبيع، إلّا أنّ وزير الأمن الإسرائيلي يوآف غالانت، أكد على "ضرورة الحفاظ على التفوق العسكري النوعي الإسرائيلي"، في إشارة للحديث عن أن ثمن التطبيع مع الرياض سيكون مفاعلًا نوويًا.

دفاع متأخر عن الربيع العربي

بعد موجة التطبيع العربية من قبل دول الثورة المضادة، التي جاءت في أعقاب هزيمة الموجة الثانية من الربيع العربي، كانت الحقيقة الأساسية الماثلة أمامنا أن الثورات العربية أحبطت التطبيع المبكر مع تل أبيب، وتمكنت من تعطيل هذا المشروع ولو إلى حين، فيما جاء "السلام" كرقصة أخيرة من قوى الثورة المضادة فوق جثة الربيع.

أما القول بأن نجاح ثورات الربيع العربي كان سيقضي على فرص التطبيع مع إسرائيل، فلم يكن ادعاء حالمًا أو بعيدًا عن الواقع؛ كما أن التقاطعات بين الاستبداد والاستعمار أكدتها مخاوف نتنياهو التي عبر عنها في ذورة الثورات العربية. وبقدر ما كان الربيع العربي خريف نتنياهو وإسرائيل، فقد تحول فشله إلى ربيع تل أبيبي يزدهر فيه التطبيع في المنطقة، وأثبتت الدكتاتورية العسكرية العربية مرةً أخرى على أنها مصلحة إسرائيلية. الأمر عينه أكدته شراكة هذه الأنظمة العسكرية الاستبدادية مع إسرائيل، فكان الاستبداد سببًا من أسباب التطبيع، ونتيجة من نتائجه. وهو ما شهدناه في السنوات الماضية، بعد أن طورت الأنظمة العربية آليات قمعها بتقنيات إسرائيلية.

بقدر ما كان الربيع العربي خريف نتنياهو وإسرائيل، فقد تحول فشله إلى ربيع تل أبيبي يزدهر فيه التطبيع في المنطقة، وأثبتت الدكتاتورية العسكرية العربية مرةً أخرى على أنها مصلحة إسرائيلية

واحدة من تجليات وأسباب هذا المسار، هي الانعزالية التي نتجت عن قمع التطلعات نحو مجتمعات ديمقراطية. وانتهى الربيع العربي الذي حمل نظرة شمولية وأعاد توحيد المنطقة في موجة ثورية واسعة، إلى انتكاسة انعزالية وقوميات قطرية، كانت مبررًا للتطبيع مع إسرائيل منذ مصر كامب ديفيد وصولًا إلى وادي عربة، وما بعدها.

ولعل لقاء المنقوش وكوهين وخروج المظاهرات العفوية في ليبيا، فرصة للتذكير من جديد في حقيقة يتجاهلها مناهضو الثورات العربية، أن نظام الأسد اقترب في عام 2010 ومطلع 2011 من التوصل إلى اتفاق سلام مع إسرائيل، وهي محادثات اقترحها الأسد على الرئيس الأمريكي في حينه باراك أوباما، ورغم تعثر المفاوضات في بعض الأحيان والخلاف على ترسيم الحدود، مع تبادل مسودة الاتفاق النهائية، إلّا أنّ الإيقاف النهائي لها، جاء بفضل انطلاق ثورات الربيع، لولا ذلك لكان نظام الأسد، وبعيدًا عن بلاغة الممانعة، قد سبق الإمارات في التطبيع مع إسرائيل. مظاهرات ليبيا دليل آخر وجديد على فعل الربيع العربي في المنطقة، وعلى رفض ردة الثورة المضادة.