05-سبتمبر-2023
كاريكاتير لـ فاليري موموت/ أوكرانيا

كاريكاتير لـ فاليري موموت/ أوكرانيا

يجعل القاص والروائي عمرو العادلي من بطل قصته "الهروب خارج الرأس" صحفيًا يتعرض للاعتقال، ولكن المفارقة أنه يجد ذلك المكان الذي يحتجزونه فيه ليقضي فترة عقوبته، ليس كما في مخيلته عن المعتقلات، فقد عامله المحقق باحترام ولياقة، ولم يتعرض له أحد بسوء، وأعطوه ملابس نظيفة، وجادوا عليه من طيبات الطعام وعذب الشراب، واهتموا بصحته وعلاجه.

ارتبك البطل وتشكك في الأمر، ليس هكذا يجب أن تكون السجون، إنها لا تشبه الصورة الذهنية التي تشكّلت استنادًا إلى قراءاته، ربما يتلقى معاملة خاصة لأنه صحفي وسجين رأي. يباغته المحقق أتكذّب عينيك وتصدق الكتب التي قرأتها؟

بعدما يقضى البطل فترة عقوبته ويخرج من السجن مُحصّنًا عقله بصورة مغايرة عن السجون، يرغب في زيارة أحد أصدقائه، فإذا به يعلم أنه قُبض عليه هو الآخر، فيقع في حيرة من أمره، هل أخذوه إلى المكان نفسه، فلا خوف ولا قلق، أم قادوه إلى تلك السجون القديمة التي قرأ عنها في الكتب؟

المؤلم في السجون السياسية العربية ليس سياسة المنع والتقييد والإخضاع وحسب، بل أن هناك من يتحكم في شكل يومك ويتلاعب بك من بعيد أيضًا

كلما قُبض على زميل صحفي في مصر أو صديق جمعتني به علاقة سابقة، أفزع من المصير الذي ينتظره، وأتخيل شكل مكان الاحتجاز الذي يقبع داخله، ويعقد عقلي المقارنات بشكل عفوي، هل أودعوه في مكان أكرم مما كنت؟ أم ألقوه لمصير أكثر انحطاطًا؟ أيمر بتجارب وإهانات وصراعات نفسية شبيهة؟ أم يتلقى معاملة حسنة؟!

قبل أن أمر بتجربة الاعتقال في مصر، كنت على معرفة ومقربة من معتقلين سابقين وحاليين، أصغيت إلى حكاياهم، وفهمت الكثير عن حياة السجون وقوانينها، فضلًا عن قراءات لا بأس بها في أدب السجون من دول مختلفة، إلى جانب المشاهدات السينمائية، الروائية والوثائقية، وهكذا ظننت أنني مُلم بعالم السجون، ولكني عندما مررت بالتجربة نفسها، اكتشفت أن الحقيقة عصية على التوثيق والكتابة، ومن المحال استيعابها، وأن لكل سجن قوانينه الخاصة، بل وكل زنزانة هي عالم مكتمل منفصل له أحكامه وشروطه وطباعه. ومع كل تفصيلة أشهدها، صرت أعقد المقارنات بين مخيلتي والواقع، بين القراءة والحقيقة، وأبدًا لم تفز مخيلتي في أي مقارنة، كان الواقع أبشع من أن يُقارن بصور أو كلمات.

فهل من الأفضل أن تحافظ السجون على تلك السمعة السيئة والصورة الوحشية، كي ترتبط دومًا في عقولنا بالقهر والمهانة والإذلال؟ أم أن تتحول إلى منشآت إصلاحية حسبما يجب أن تكون، ووقتها ربما نفقد عقولنا من عدم التصديق أن الأنظمة الحاكمة يمكن أن تصير رؤوفة وتشملها الإنسانية؟

إن قمع النظام ووحشيته يتناسب طرديًا مع مدى قسوة السجون ووحشتها، لذا كلما زاد النظام توحشًا كلما زادت صورة السجن تشوّهًا في مخيلتنا، وهذا ما يدفع إلى ظهور أنماط جديدة ومختلفة من الانتهاكات، فما كان مستحيلًا بالأمس أصبح ممكنًا اليوم، وما كان مُجرّمًا أصبح جائزًا.

السجن هو السجن، لن يصير شيئًا آخر لو جعلوه آدميًا، سيظل سجنًا ولو توفرت به كل متع الحياة، المؤلم في السجون ليس فقط سياسة المنع والتقييد والإخضاع وانتهاك الخصوصية وفرض السيطرة الكاملة على مصائر وأجساد المسجونين، المؤلم ليس فقط في الزنازين المغلقة، بل في رمزية السجن نفسه، وأن هناك من يتحكم في شكل يومك ويتلاعب بك من بعيد، تلك الرمزية التي تلازم السجين بقية حياته، فيشعر بأصابع خفية تعبث في عالمه فتفسده وتبعثره.

تختلف السجون من دولة لأخرى، تختلف في شكلها وقوانينها، وتختلف أيضًا في مخيلة الشعوب عن طبيعتها، فمن يُسجن في السويد ربما يُصدم لو وجد صرصورًا على الحائط، بينما من يُسجن في مصر سيُصدم لو عاملوه بآدمية. سيدمرون صورته الذهنية عن السجّان، سيخر ساجدًا لو خرج من مقر الإخفاء القسري سالمًا وصار في سجن معلوم موقعه، فلم يعد نكرة، بينما الآخر سيطلب بكل تعالٍ حقه القانوني في انتداب محامٍ.

ينظر السجين في مصر إلى زيارة الأهل لدقائق بعد سلسلة من الإهانات على أنها الغاية والمُنى، بينما في دول أخرى هي حق لا يمكن التنازل عنه. في دول أخرى لا يُسجن المواطنين لآرائهم، بينما هنا يُودعوا بالسنين في المعتقلات بلا محاكمة.

يُصدم المواطن الأوروبي لو استدعته جهة التحقيق لسؤاله عن قناعاته أو أفكاره أو انتماءاته أو آرائه أو كتاباته، بينما يُصدم المواطن المصري إذا دخل غرفة التحقيق وخرج دون إهانة، وربما يفقد وعيه من هول الصدمة إذا أخبروه أنه حُرّ لأن القانون لا يُعاقب على الأفكار.

هذه سجون وتلك سجون، وكلاهما عقوبة، فما الذي يختلف لو صارت سجوننا وردية، ربما تحفظ القليل من كرامة الإنسان، ولكن هل تحمي عقولنا من احتمال فكرة السجن؟ بل هل تحمي عقولنا من احتمال فكرة أن النظام والسجّان ليسا بالبشاعة والقساوة التي تخيلناها؟

إن أحد عزاءات المعتقل التأكد من أن النظام الذي عارضناه يستحق المعارضة، وأن المعتقلات الوحشية التي سرقت حيواتنا هي أداة جريمته وتجسيد شره.