26-يوليو-2016

تجمع احتجاجي بمدينة إدلب السورية تأييدًا لأردوغان ورفضًا للانقلاب العسكري الذى تمت السيطرة عليه بتركيا منذ أيام (Firas Faham/Anadolu Agency/Getty)

كم كانتْ ليلة محاولة الانقلاب في إسطنبول قاسية، بالدرجة الأولى لأنّها كادت أن تقتلع حبال خيامِ السوريين وتلقيها في غيابات الوداع الأخير وتطفئ السراج الذي اعتاد السوريون يوميًا أن يغمسوا فتيله بدموع الانتظار والحـلـمِ بأنْ يتسعَ الأفق نحو الجنوب أكثر فأكثر ويرجعون إلى سوريا ليناموا ولو ليلة واحدة بلا كوابيس ولا اختلاجات.

كنتُ وقتها برفقة عدد من الأصدقاء العرب الذين جمعتني بهم الصدفة لحضور دورة تدريبية عقدت في إسطنبول، تجوّلنا في المدينة، طوالَ اليوم وأنا أعرفهم على الأماكن التاريخية وأسرارَ البسفور الهادئ وكأنّي ابن قديم العمرِ تركَ آثارَ خطاه في ساحاتِ هذهِ المدينة وعادَ بعد قرن ليرمّمَ آثاره لكن هذه المرة بصفتهِ لاجئًا مسيّجًا بمعاهدات لوزان وسيفر.

علينا أن نرى مصيرَ شواهد قبور شهدائنا، ونفكّر في نفسِ الوقت في مصير الوسادةِ التي نريحُ عليها رؤوسنا في سريرِ الضيافةِ واللجوء

أمضينا وقتًا طويلًا في تقليبِ صورِ ماضينا بحسرةٍ وخوفٍ من المستقبلِ، أما أنا وكوني السوري الوحيد بينهم، فكنتُ أدركَ المستقبل واضحًا في هويتي الجديدة التي عنوِنت بكلمة لاجئ، وما إن مضى نصفُ الليلِ حتى اخترقت تفكيرنا الآني ومشاعر الاستمتاع رصاصاتٌ حارقة أطلقتها شاشاتُ التلفزة في الدكاكين وصفحات مواقع التواصل الاجتماعي، وامتلأ فضاءُ المدينة بفوضى كلمات نحسّ بكارثيتها دون أن نفهمَ معناها، وما عاد من مجالٍ غير أن نصل بأي وسيلة إلى محلّ إقامتنا.

هذه أمنيةُ الجميعِ إلا أنا، فهويتي السورية تحملُ أفكاري إلى الغدِ المرعبِ، فأنا الضيف والدخيل والضحية والسائح في هذه البلد، وعلي أن أحمي عواصم الدنيا أجمعها طالما أن خيمنا السورية قد نصبت أعمدتها في كلّ مكان في العالمِ تنتظرُ القوافلَ التي مازالت تخرجُ من بلدنا المحترق "سوريا".

اقرأ/ي أيضًا: التجربة التركية.. الطبقة الوسطى في مواجهة العسكر

لم يكن هذا الحدث إلا صورة لهاجسٍ نفسيّ قديم، كتبتُ عنهُ في قصيدة طويلة، عنوانها "جنازة الحرفِ الأخير" والتي نشرتها منذ أكثر من شهر في إحدى الجرائد وقلت فيما يخصّ الحادثة:
أرمي على إسطنبولَ أعصابي لأحميَها
وأبعد سورَها عن أفقِ زرقاء اليمامه
فهناكَ في الحجرِ الدفينِ تنوحُ نيرانٌ وهامه
نجمٌ سيسقطُ من علوّ البرجِ إنْ لم ينتطقْ جنحي حصانِ
الله يا إسطنبولُ يا ظلَّ الأماكنِ في محطّاتِ الزمانِ
لا تكشفي لرؤاي سترَ المسرحِ المشحونِ بالأهوالِ
وامتشقي سيوفَ البرقِ
واحمي عرشكِ الموجودِ في جرسِ الكنائسِ والأذانِ

إلى أنْ رأيت هذا الكابوس القديم يصحوا مع الطائرات الحربية التي قطعت هدوء المدينة، والدبابات التي أغلقت فم جسر البوسفور وكأنّها شمعًا أحمرًا يغلقُ صناديق الانتخاب في هذا البلد.

هو كابوس يرى فيه الأتراك المتجمهرون في الشوارعِ صورًا قديمة نسوها لعساكرَ يجوبون المدن ويتسرّبون في كلّ ما هو مدني بدءًا من مياه الشرب وليسَ انتهاءً بالكتب المدرسية، بينما أصدقائي العرب من البلاد الهادئة نسبيًا يرونهُ بنفسِ النظرة التي كنّا ننظر فيها إلى الفلسطينيين والعراقيين قبلَ الثورات العربية. أمّا نحنُ السوريين فكانَ علينا أن نرى فيها سكّة قطار ثورتنا الذي يشقّ آفاق الضباب، وعلينا أن نرى مصيرَ شواهد قبور شهدائنا، ونفكّر في نفسِ الوقت في مصير الوسادةِ التي نريحُ عليها رؤوسنا في سريرِ الضيافةِ واللجوء.

اقرأ/ي أيضًا: الشرعية التركية تعري "العقل الجمعي" العربي

لذلكَ كنّا الأكبرُ همًا من بينِ جميعِ من شاهدوا تلك الليلة في هذهِ المدينة سواء من أهلها أم من زوّارها.

أحسستُ في تلكَ اللحظات بحميمية ثلاثة مليون سوري يصبّون في آفاق روحي مشاعر أخوة كنا نظنها بصراحة مجردَ تشابه في شكل الهوية داخل بلد اللجوء، لكن تلكَ الحادثة غرست في نفوسنا بذرة الأخوة التي أنسيناها ورميناها في رياحِ التناحر والاختلافِ والمناطقية وكأنما الهتاف الثوري الأول لم يكن نشيدًا مزيجًا من كافة اللهجاتِ في سوريا.

ماذا لو صارحنا أنفسنا وقلنا بأنا لم نكن في منافينا على قدرِ الأخوّةِ التي عهدناها بداية الثورة في سوريا، وإلى أينَ سنلجأ وعن أي وجهٍ سنفتّش لنحتمي به لو نجحَ الانقلاب وحلّت المصيبة؟

أوَليس الغريب لا يلجأ إلا للغريب كما قال امرؤ القيس، فكيفَ بنا ونحنُ أبناء بلدٍ يحرقهُ كل مجانين الدنيا، فقط لأننا أردنا أنْ نتحوّلَ من أخوةٍ داخلَ سجن كبير إلى أخوة في فضاءٍ رحب خال من سموم الطائفيةِ والفسادِ والتعالي والتجبّر.

ربما خلقَ فشل الانقلاب فسحةً من الأملِ بأنّ صوت الشعبِ الواحد لا يقهرهُ الرصاص، فكشفتْ إرادةُ الشعبِ التركي على اختلافِ أحزابهِ خللًا في طريقنا الثوريّ ينخرُ في تضحياتنا ويذهبُ بدماء شهدائنا سدى.

خللًا تتشهّى إصلاحهُ كلّ أمّ باكية، وكلّ طفلٍ مشرّد، وكل رصاصةٍ ثوريّة حالمةٍ بيوم النصر والراحة، ذلكَ هو خللُ الأخوّة الذي لا يعالجُ إلا بتبيان الأخطاء والكفّ عن حجبها وراء الشعارات بحجةِ ضروراتِ الواقعِ، حتى وإن فنينا جميعًا يُقالُ: كانَ هناك شعبٌ ثائرٍ أفنتهُ وحوش الأرضِ فـوّحدهُ الموت. وإنْ انتصرنا نقولُ ليومنا المنتظرِ: بلغناكَ بوحدتنا رغمَ قوةِ العدوّ، ويكفينا من فشلِ الانقلابِ بإرادة الشعب أنْ ندرك أنه ليس بالرصاصة فقط تنتصر الشعوب.

اقرأ/ي أيضًا:
أردوغان وما بعد الانقلاب
في أعقاب الانقلاب.. شرخ كبير بين تركيا وأمريكا