24-يوليو-2016

Photo by Emin Sansar/Anadolu Agency/Getty Images

علي إثر تحرك قطاعات ضخمة من الجيش التركي مدعومة بالدبابات والطائرات لعمل انقلاب عسكري جديد، كما جرت عادة الجيش التركي، خرجت الملايين من قطاعات الشعب التركي المختلفة هذه المرة لتملأ ميادين تركيا وتتصدى للانقلاب ما أسفر عن سقوط حوالي 265 قتيل بينهم 104 من مؤيدي الانقلاب و161 من المعارضين "مدنيين وشرطيين"، وهو ما ترتب عليه فشل ذريع للانقلاب العسكري وإلقاء القبض على معظم المشاركين فيه، وفي الأيام القليلة التالية اتسعت حملة ما يسمونه في تركيا بالتطهير تحت ذريعة الانقلاب لتصل إلى آلاف العسكريين والقضاة وحتى الأكاديميين والمعلمين تحت شعار "اجتثاث الكيان الموازي المؤيد للانقلاب".

وفي مصر وكرد فعل على الانقلاب العسكري في تركيا اشتعل الفضاء الإلكتروني بالتعليقات والجدل داخل اليسار حول عدة قضايا يمكن تلخيص جذورها في ثلاث مسائل هي 1- الموقف من الإسلاميين (هل هم إصلاحيون أم فاشيون) 2- الموقف من الانقلابات العسكرية (هل هناك انقلابات جيدة وأخرى سيئة) 3- الموقف من سيادة القانون. وظهر خلال هذا الجدل من يعادي الإسلاميين من موقف ديمقراطي، ومن يعاديهم من موقف الإسلاموفوبيا المتعالي على خيارات الشعب التركي الديمقراطية، كما ظهر من يساوي بين طرفي الانقلاب متناسيًا موقف البلاشفة من انقلاب كورنيلوف على حكومة المناشفة كمثال.

ربما أناقش النقطة الأولى والثانية في مقال آخر، خاصة وقد كتب عنهما العديد من المقالات والتعليقات على موقع التواصل الاجتماعي، لكن ما تعجبت له أن النقطة الثالثة تم التعامل معها بشكل بديهي من قبل معظم من قرأت لهم وكأنها من المسلمات (سيادة القانون واحترام الدستور)، وكأن الدستور والقانون نصوص مطلقة مفارقة للتاريخ ومنزلة من السماء ولا تعبر عن مصالح طبقة أو توازن طبقي معين. وقد ذكرني هذا بموقف نفس الإصلاحييين بعد ثورة 25 يناير في مصر عندما دافعوا عن سيادة القانون ورفضوا المحاكمات الثورية لرموز النظام السابق وهو ما وصل بنا إلى ما نحن فيه اليوم، حيث الثوار في السجون ورموز مبارك طلقاء ينعمون بسرقاتهم وإجرامهم دون عقاب.

اقرأ/ي أيضًا: الشرعية التركية تعري "العقل الجمعي" العربي

القانون ليس كيانًا محايدًا لنحترمه ونجله ونقدسه ولكنه صيغ بواسطة طبقة أو تحالف طبقي معين ليعبر عن حالة التوازن الطبقي القائمة لحظة صياغته

بالتالي فالقانون في التجربة التركية كان وحتى قبل الانقلاب الأخير يعبر عن حالة التوازن بين العسكر صاحب الميراث الانقلابي الطويل بذريعة حماية الدولة العلمانية والدولة المدنية التركية من ناحية وبين البرلمان والمؤسسات الديمقراطية والتجربة الديمقراطية في تركيا من ناحية أخرى. كما كان يعبر أيضًا عن نسبة التمثيل في السلطة السياسية والثروة داخل المجتمع التركي والتي مع استلام حزب العدالة والتنمية مقاليد الحكم في البلاد عام 2002 وتبنيه سياسات الليبرالية الجديدة والتكامل الاقتصادي قد ضاعف من حجم ومكتسبات الطبقة الوسطى عدة مرات، مما كان يعني حتمية تمثيلهم في المعادلة السياسية الجديدة ولو على حساب دور العسكر بما لا يتجاوز سياسات التكامل الاقتصادية والليبرالية الجديدة المتبعة.

لذا فعندما حاولت المؤسسة العسكرية أو قطاع منها الانقلاب على الديمقراطية كان هذا من ناحية تخوفًا على دورهم ومكتسباتهم في الحياة المدنية والتمثيل السياسي المهدد حال استمرار نمو هذه الطبقة الصاعدة، ومن ناحية أخرى كان محاولة لفرض وضعهم وحماية مكتسباتهم بالوسيلة الوحيدة التي لديهم (قوة السلاح) عبر عمل قفزة في طبيعة التوازنات الحالية مما كان سينعكس بالطبع فيما كان سيتم انتهاجه وصياغته من قوانين ودستور حال نجاح الانقلاب.

اقرأ/ي أيضًا: أردوغان وما بعد الانقلاب

أيضًا عندما خرجت الملايين من الشعب التركي للوقوف في وجه الدبابات مقدمين المئات من الشهداء والمصابين فقد كانوا يعبرون عن حالة تخوف من عودة نماذج الانقلابات الأربعة السابقة، ومن تكرار السيناريو المصري بالفعل، ولكن الجذر الطبقي للمسألة كان التعبير عن حال الطبقة الوسطى الصاعدة هذه ورغبتها الدفينة في التمرد على حالة التوازن السابقة وخلق حالة جديدة من التوازن تصب في صالحها وصالح قوى الديمقراطية التمثيلية التي تعبر عنها. وهو ما ظهر في قوة موقف النخب السياسية المعارضة لأردوغان من رفض للانقلاب العسكري، ولهذا يطلق الشعب التركي على الانقلاب: هبة من السماء.

لذا فالواجب على كل القوى الديمقراطية التركية ليس على الإطلاق الدفاع عن الجملة الساذجة: "سيادة القانون والدستور". فكما أنها في الأصل جملة خاطئة تعبر عن حالة الاختطاف الذهني من قبل البرجوازية فهي أيضًا تعني الدفاع عن حالة توازن تجاوزها الجميع بالفعل في الواقع السياسي التركي، لكن ما يجب على القوى الديمقراطية التركية اليوم فعله هو السعي لتكوين بديل ثوري جماهيري بالتوازي مع التداخل النضالي الإيجابي في تشكيل المعادلة الجديدة التي يتم صياغتها، ومن ثم الضغط في اتجاه تعميق العملية الديمقراطية عبر الدعوة لتعزيز سلطة البرلمان والمؤسسات الديمقراطية المنتخبة في مواجهة المؤسسة العسكرية والقضائية، أيضًا التعزيز من سلطة المؤسسات القاعدية مثل المحليات في مواجهة السلطة التنفيذية والانفتاح على القضايا الدولية من منطلق ديمقراطي شعبي، والرفض القاطع للتطبيع مع الكيان الصهيوني مع إعلان الرفض القاطع لإقرار أي إجراءات تعسفية تعرقل من سير العملية الديمقراطية بشكلها الحالي وتتعسف في حق المدنيين.

اقرأ/ي أيضًا:
الفريضة الغائبة في الثورة المصرية
في أعقاب الانقلاب.. شرخ كبير بين تركيا وأمريكا