05-سبتمبر-2023
كاريكاتير لـ مورو/ كوبا

كاريكاتير لـ مورو/ كوبا

لطالما جالت في خاطري تساؤلات حول صعوبة تحقيق برامج ومشاريع الحوكمة ومكافحة الفساد والمساءلة أهدافها المرجوة حول العالم؟ فحتى لو حقق بعضها بعض النجاحات الجزئية هنا أو هناك، ما زلنا نرى الفساد يستشري في العديد من البلدان النامية، وأحيانًا يمتد ليضرب في الدول المتقدمة، معتمدًا على هياكل فساد راسخة ومتفشية، مما يقوض الاستقرار الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، خصوصًا في البلدان النامية، وغالبًا ما تتطور هذه الهياكل نتيجة لعوامل مختلفة ولكنها مترابطة.

وفي بعض الأحيان قد تشير المؤشرات إلى أن هندستها وبناءها قد يتم عن قصد! فلماذا كل هذه المقاومة ضد الإصلاح؟ ولماذا قد يستميت البعض في الدفاع عن بقاء الوضع الراهن؟

في قلب هياكل الفساد، على اختلاف أشكالها، نرى دائمًا تركز للسلطة في أيدي عدد قليل من النخب السياسية أو في أيدي زعيم متسلط واحد. حيث تمكّنهم هذه المركزية من التلاعب بموارد الدولة واقتصادها لصالحهم، مع مشاركة بعض الفتات مع الموالين المخلصين، مما يعزّز ثقافة المحسوبية والواسطة. ويغدو الفساد أحد أدوات الحفاظ على السلطة والتشبت بها حتى لو أعلنت النخب غير ذلك. ففعليًا في هذا السياق لا يعود لدى هذه النخب الفاسدة أي حافز حقيقي للمضي قدمًا في أية إصلاحات ذات معنى للحد من الفساد، ومنح المزيد من الحريات الديمقراطية، وترسيخ مبادئ الشفافية والمساءلة والحوكمة، وهو ما يرغب فيه أغلبية الناس بوضوح.

في قلب هياكل الفساد، نرى دائمًا تركز للسلطة في أيدي عدد قليل من النخب السياسية أو في أيدي زعيم متسلط واحد. حيث تمكّنهم هذه المركزية من التلاعب بموارد الدولة واقتصادها لصالحهم

ومع مرور السنين يبدأ الفساد بالتسلل إلى جميع مستويات الحكومة خارج حدود النخبة الحاكمة، بدءًا من الموظفين ذوي الرتب الدنيا الذين يطالبون بالرشاوى مقابل الخدمات الأساسية، إلى المسؤولين رفيعي المستوى الذين يختلسون أموال الدولة، أو يتنفعون هم وحاشيتهم من مناصبهم بأشكال غير أخلاقية، أكان بمخالفة القانون أو استغلال الثغرات فيه. حيث يستغل هؤلاء المسؤولون ضعف الضوابط أو عدم وجودها، مع محدودية الشفافية وآليات المساءلة، وشعورهم بدرجة من الأمان من عدم ملاحقتهم ضمن منظومات نخرها الفساد والمحسوبيات.

ويزداد الأمر سوءً في الأنظمة غير الديمقراطية والنخب الحاكمة غير المنتخبة، حيث تستمد السلطة شرعيتها من السلطات التاريخية أو التقليدية المبنية على شراء الولاءات ممزوجة بشيء من الوطنيات والقومية المصطنعة، حيث نرى تداخلًا لهياكل الفساد في علاقة غير شرعية بين السلطة ورأس المال، لتمتد أذرع الفساد الطويلة إلى الصناعات أو القطاعات التي تسيطر عليها الدولة، مثل الموارد الطبيعية أو مشاريع البنية التحتية، وتمتد حتى للقطاع الخاص مخضعةً إياه لقواعد الفساد التي وضعتها. حيث تحول هذه القطاعات من أعمدة للاقتصاد الوطني إلى مجرد مصادر مربحة للسلوك الريعي، إذ يستمر من هم في السلطة، ومن يدورون في فلكهم، بالتكسب الشخصي في حين يهملون الصالح العام.

وحتى مع وجود بعض مظاهر للتعددية السياسية المحدودة التي قد تسمح بها بعض الأنظمة غير الديمقراطية من أجل الترويج لمظهر الاختيار والمشاركة، فإنها تستمر في السيطرة الصارمة على المشهد السياسي من خلال منظومات سياسية عاجزة ومشوهة ينخرها المال الاسود السياسي والفساد والمحسوبيات، تحت مظلة قوانين وممارسات إنتخابية تضمن إعادة إنتاج ذات النخب أو تجديدها، مما يضمن عزوف الجميع عن التغيير والإصلاح ومحاربة الفساد.

وعلى العكس بدلًا من محاربة الفساد قد تندفع السلطة في سن تشريعات مقيدة للحريات ونشاطات المساءلة والمحاسبة وتضعف المجتمع المدني بشكل عام، فتضعف هذه المنظومة سيادة القانون مع مرور الوقت، وتضعف قدرات مؤسسات الدولة المعنية بالتحقيق بفعالية في الفساد وملاحقته ومقاضاته، وتنعكس الآثار السلبية لهذا النموذج على المواطنين والنشطاء والحقوقيين، مما يثبط المبلغين عن المخالفات، ويضعف الصحافة الاستقصائية، خوفًا من تعريض أنفسهم ومن حولهم لإنتقام السلطات.

كما يشير التاريخ الحديث لمساهمة الدول المتقدمة والجهات الفاعلة الدولية والشركات المتعددة الجنسيات في تعزيز منظومات الفساد من خلال الانخراط في صفقات فاسدة مع الحكومات السلطوية، مما يزيد من تمكين هذه الهياكل من الازدهار، فبعض الدول الغربية من أكبر داعمي المستبدين والفساد حول العالم، ومن الأمثلة على ذلك إيقاف رئيس وزراء بريطانيا السابق توني بلير لتحقيقات في قضية فساد كبرى "صفقة اليمامة" في عام 2006، كما لم يخجل رئيس الوزراء الكندي جاستن ترودو عام 2019 من تحمل المسؤولية في فضيحة شركة هندسة كندية كبرى متورّطة بفضيحة فساد في ليبيا، ولا يتسع المجال للخوض في تاريخ الأمريكيين جمهوريين وديمقراطيين في هذا المجال.

ضمن هذا السياق المعقد، يعد كسر دائرة الفساد في الدول السلطوية عملية طويلة الأمد تتطلب جهودًا متواصلة من الجهات الفاعلة المحلية والدولية، وضغط المجتمع المدني والصحافة المستقلة من أجل رفع كلفة استمرار الفساد على السلطة. مما يتضمن في كثير من الأحيان تغييرات منهجية تعالج الأسباب الجذرية للفساد وضرب هياكله، وتعزيز ثقافة الشفافية والمساءلة، وسيادة القانون، واستقلال وصلاحيات هيئات مكافحة الفساد، وبرامج حماية المبلغين، والتشاركية مع المجتمع المدني والإعلام المستقل، وحملات التوعية وتغيير السلوك، وتطوير بيئة التشريعات وزيادة الاعتماد على التكنولوجيا، بالإضافة إلى تنفيذ إصلاحات اقتصادية حقيقية تعزز العدالة الاجتماعية، وتشجع على المنافسة ومشاركة القطاع الخاص وتكافؤ الفرص، وتقلل من فرص الكسب غير المشروع.

في النهاية، فعليًّا كل جريمة فساد في نهايتها مبنية على قرار وفعل فردي، ولكن تسطيح الأمور من خلال القول بأن الفساد حالات فردية فقط، أو أن الفاسدين هم أساسًا من المجتمع، وبالتالي فإن الفاسد هو المجتمع! لا يتعدى كونه ذر للرماد في العيون، فالفاسد مجرد ترس تم تصميمه وتشكيله وإتاحة المجال له ضمن هياكل أوسع لا يتحمل مسؤولية خلقها واستدامتها سوى السلطة.