26-يونيو-2023
kl

صورة تظهر هدم مقابر القاهرة التاريخية (Getty)

"السياسي الذي لا قول له في الاقتصاد دجّال"

جاء على شاهد قبر شيْكِسبير أن "بورِك فيمن أبقى على حالها هذه الصخرة واللعنة على من حرّك رفاتي". ويبدو أنّها نفس الرسالة التي تُطلقها  جبّانات القاهرة هذه الأيام. فبمصر نقاشٌ إثر اعتزام الحكومة انتهاك ونقل المدافن والبنى الإسلامية التاريخية. السلطة تراه تطويراً؛ والمؤرّخون يرَوْنَه تدميراً حضارياً للبلَد. ولكن وكما اقترَح ماكس فيبر فهذه نقاشات في الرأسمالية. فتقديس أرواح الأسلاف (الصين) وتقسيم التركة (الإسلام) يُقيّد رأس المال. وطبعاً أصبح هذا التحليل متجاوزاً. ولكنّ الإشارة إلى سطوة الرأسمالية في هذه الجدالات راهنة.

إنّ سجالاتنا اليومية لهي، من حيث لا ندري أحياناً، نقاشات رأسمالية. ولعلّ الكارِثة الاستراتيجية في السياسة العربيّة غياب التمايزات البرنامجية والاقتصادية بين المتصارعين. فالأحزاب غدت تسلّم بالليبرالية الاقتصادية وتؤمن عملياً بنهاية التاريخ. منذ صراعات الأشراف والجمهور لدى الإغريق والرومان حتّى الديمقراطيات المعاصرة والصراع السياسي هو بين رؤيتين اقتصاديتَين تحملهما طبقتان متصارعتان. ولكن فرقاء السياسة العربية لم يعودوا يختلفون كثيراً في اقتصاداتهم وإن تطاحنوا على السياسة. وبهذا المعنى فإنّ هذه السياسات عادت للفتنة الأولى المتعلّقة بالحقّ في الحكم أكثَر من طبيعة الحكم وأصبحت سياسات متعلّقة بالكرسي، لا بالطاولة.

ثمّ إنّ التفكير في السياسة بالاقتصاد قد ذوى بانهيار التقليد السياسي الذي كان يُقارِب السياسة من منظور الاقتصاد السياسي والصراع الطبقي وتحليل بنى المجتمع والسوق والدولة. ولجأت هذه النظريات إلى شِعاب الأكاديمية أو دهاليز الشعبوية. والمفارقة أنّ غياب الاقتصاد السياسي يجري في سياق عيث قوى السوق في المجتمعات. لقد جثت لبنان وتركيا بسبب أزمة رأسمالية. ويبدو أنّ مصر وتونس سقطتا في أزمة ديون. وقُل نفس الشيء عن غانا وزامبيا وسريلانكا، التي أخفقت في دفع ديونها وهلمٓجراً على التفاوتات الاجتماعية والتفقير والبطالة.

إنّ سجالاتنا اليومية لهي، من حيث لا ندري أحياناً، نقاشات رأسمالية. ولعلّ الكارِثة الاستراتيجية في السياسة العربيّة غياب التمايزات البرنامجية والاقتصادية بين المتصارعين. فالأحزاب غدت تسلّم بالليبرالية الاقتصادية وتؤمن عملياً بنهاية التاريخ.

طبعاً يعلَم ساسة الجنوب العالمي بمعضلات الرأسمالية في بلدانهم. ولكنهم انصرفوا إلى اعتبارها أزمة سلوكية (behaviourism) متعلّقة بالفساد، لا النُظم. ومع ظهور نظرية الزِبانة (clientelism) نُسِبَ الفشل الاقتصادي لجشع الساسة أكثر من بنية الحكم. فعمل فرانسوا بايار، سياسات الكِرش (1989)، حاجج أنّ السياسة الإفريقية تقوم على نموذج من المحاباة (nepotism) يعتمِد على حلب الدولة بشبكات الفاعلين الكبار وأتباعهم من صغار الباحثين عن الموارد والحماية. وليست سياسات الكِرش غير صراعاتهم على موارِد الدولة. وتوسّعت هذه التحليلات بما سُمي بـ"الرأسمالية الزّبونية" (crony capitalism) التي تُحقّق فيها الشِّلل السياسية النفع الاقتصادي. ومع توسّع المشاركة السياسيّة تبيّن أنّ المعارضات العربية والإفريقية، بما فيها المعارضات الدّينية، تمتلك رَيْعَها المنافِس للأنظِمة وتريد تمكينه بالصعود السياسي. وقيل إنّ الشلَلية هي ما يمنع تحقّق رأسمالية حقيقية بالمنوال الغربي.

غير أنّ التفسيرات بالسلوك أو الثقافة السياسية التي تختزل الإخفاق في الفساد والاستبداد صارت كسولة ومُجترّة (مع الاعتراف طبعاً بتجذّر الفساد والطغيان ببلداننا). ويبيّن عمرو عادلي في عملهالرأسمالية المشقوقة (أو المشطورة أو المتصدّعة) (2022) أنّ المشكِلة لا تتعلق بالفشل في المعايير. بل إنّ الرأسمالية متحقّقة فِعلياً في هذه المجتمعات ولا يمنعها الفساد. فبلد كمصر قد حقّق، طوال العقود الأربعة من "الانفتاح" وحكم المؤسّسات العالمية للرأسمالية كالنقد والبنك الدوليين والوكالة الأميركية للتنمية الدولية، انتقالاً إلى نمط يهمين عليه القطاع الخاص. ولكن المشكلة هي فشل النيوليبرالية في وعدها بخلق سوق كبير تتطوّر فيه الشركات الصغيرة والمتوسّطة إلى أن تقدر على تشغيل الملايين. لم يتحقّق هذا الوعد في مصر، ليس بسبب فشل تطبيق الرأسمالية أو بالشّلَلية، بل لأن النموذج يقوم على تغوّل الشركات الكبيرة وهيمنتها على السوق فتمنع الصغيرة من النمو ومن خلق سوق عمل واسِع.

وطبعاً لا تمنع السلوكية نماذج أكثر بنيوية. فمثلاً قيل إنّ رأسمالية الدولة متمثّلة في تغوّل القطاع العام تمنع نظام السوق. وحلّل جان بيير فيليو النظام في مصر وسوريا بأنّه نظام المماليك الجُدُد المسيطرين، وبالأخصّ باقتصاد الجيش، مانعين بذلك اللبرلة والتحديث. ولكنّ عادلي، وإن لم يُحِل لفيليو، يردّ على تغوّل القطاع العام والزبونية. فمصر الناصرية، بعكس اشتراكيات المعسكر الشرقي، لم تتخلّص من القطاع الخاص، بل ظلّ يتشارك الاقتصاد مع القطاع العام ويزيد عليه في قطاعات معيّنة. بل إنّ الشركات المتوسّطة ظهرت بتقادم إبّان هذه الحقبة. ثمّ إنّ الفساد السياسي، متمثّلاً في الشِّلَلية، لم يدمّر رأسمالية النظام. بل كان من المنتفعين من سياسات الانفتاح أشراف العهد الناصري والملّكي/الوفدي (كعوائل سراج الدين وبدراوي وعبد النور). ولم يكن هؤلاء بدايةً من شلّة النظام وزبنائه. بل وظّفوا رؤوس أموالهم الاجتماعية في المال والأعمال. ثمّ إنّ طبقة منهم، كعوائل ساويرس وجبور وبشاي وبرزي وماجد سامي وسامي سعد، كانت من الأقباط الذين افتقروا بدايةً إلى العلاقات الاجتماعية الواسعة؛ أو كانوا من الإخوان المعارضين (كعوائل عبد العظيم لقمة وعبد الرحمن سعودي).  فالمسألة إذاً ليست العوائق القطاعية أو السلوكية. بل هي تكمن في الطبيعة النيوليبرالية للانفتاح التي جعلت الشركات الكبيرة تستأثِر بالنفاذ للتمويل على حساب الأعمال الصغيرة والمتوسّطة فأخفق مشروع التشغيل الواسِع ومعه إمكانية حلحلة التفاوتات الاجتماعية. إنّ قصة الحيتان والأسماك هذه هي قصة النيوليبرالية بدل أن تكون عائقها.

مهن

يعطي عادلي مشيئةً للطبقة المحلية. فالرأسمالية ليست مجرّد إسباغٍ من النقد الدولي، بل تسندها مصالِح "التكنوقراط" وذهنية خريجي الإجماع النيوليبرالي ومنطقها المحلّي. كما يجبر هذا التحليل العلاقة بين الرأسمالية العالمية والمحليّة. ويٌقسّم عادلي هذه النماذج المتعايشة إلى ثلاث: الرأسمالية البَلدَية، التي هي هيمنة العلاقات الاجتماعية على السوق، والرأسمالية الشِّلليّة، التي هي هيمنة السياسة على الاقتصاد، ورأسمالية الشياكة أو الرأسمالية المتهندمة (Dandy capitalism) القائمة على الاقتصاد الشرائكي "الاستحقاقي". غير أنّ عادلي يُبيّن أنّ الأزمة تكمن في انشطار هذا النظام بين سوق سوداء واسِعة واقتصاد شرائكي متقزّم.

 يُقدّم عمل عادلي أحيانا أنّه يتجاوز ثنائية اليسار واليمين لأنّه يبيّن إخفاق الاقتصاد النيوكلاسيكي ضدّ اليمين؛ ويركّز على المشيئة المحليّة في تشكيل الرأسمالية، ضدّ اليسار. ولكن الواقِع أنّ الانتباه للأبعاد الأهلية للسوق كان قد أصبَح كذلك طريقة يسارية في التحليل. ويبني عادلي على تحليلات الماركسي جيلبير الأشقر الذي علّل إخفاق النموذج الرأسمالي في الشرق الأوسط بعجمة من اقتصاد الريع، المعتمد على العائدات الخارجية، وعلى الكراء، مع ضعف الاستثمار الخارجي وإكراهات المانحين إلخ. وبهذا المعنى نجح الأشقر في إكمال النقص عند حازم الببلاوي ورفاقه الذين فكّروا في نموذج من الرّيع يركّز على الدولة والكراء. ثمّ إنّ الاشتراكيين طالما نادوا أنّ الأزمة في الرأسمالية، لا الشللية. وحتى تحليلات سمير أمين، التي تُرمى الآن بالثنائية بين المركز والمحيط بتركيزها على استغلال الشمال للجنوب تُعطي دوراً للكومبرادور، أي الطبقة الأهلية المتغرّبة التي تتوسّط العلاقة بين رأسمالية المركز والمُحيط. بل ولعلّ عمل عادلي يأتي في سياق تحوّل ما كان كمبروداراً وهامشياً على أيام أمين إلى رأسمالية محليّة أو متهندمة.

طبعاً لا تنفي رأسمالية هذه البلدان خصوصيتها الاقتصادية، بل تتعايش فيها رأسماليات معيارية ومخصوصة. ويبدو أن رأسمالية الجنوب ستكون دوماً مشقوقة وفصامية. ولعلّ أشهر الأعمال التي تناولت هذا في الصين مثلاً كان عمل والتر وهووي، الرأسمالية الحمراء (2011)، الذي رأى النموذج الصيني قائماً على تعايش بين رأسمالية الدولة (الشيوعية) والرأسمالية المعيارية. لا يُفهم النمو المتسارِع للصين خارج الهجانة بين القطاع العام المهيمن (أو رأسمالية الدولة) والحقل المصرفي ورأسمالية الشركات. وبمعنى ما فإنّ الحقل المالي يرأب الصدع بين الشيوعية والرأسمالية ويعطي للنموذج الصيني قوته، خلافاً للنموذج المصري. ويظن البعض أنّه حتى في داخل الاقتصاديات الغربية سيحصُل تمايز بين الرأسمالية الخضراء، القائمة على الخيارات البيئية الجديدة، والنيوليبرالية.

طبعاً يمكن نقد هذه الأعمال في تحليلاتها وفي أنّ نماذجها غير قابلة للتعميم الواسع، عكس ما يأمله مؤلّفوها. ولكن يمكن البناء عليها في دراسة المفاوضات والتناقضات بين الرأسمالية البلدية والزبونية والمتهندمة ونماذج محلية أخرى يتعيّن اكتشافها. ويمكن القول إنّه في بعض البلدان الإفريقية والعربيّة فإنّ الرأسمالية الزبونية تبزّ بسهولة رأسمالية الشياكة وتمنعها حتّى. بل إنّ رأسمالية الشركات فيها قد تكون عشائرية وزبونية وفاسدة. فمن المهم تحليل الفساد في سياق سوسيولوجي يحلّل علاقة السلوك بالبنية ويفهمه أنّه نمط إنتاج وليس مسألة عارِضة. غير أنّ أهمية هذه الأعمال تكمن في أنّها تقدّم فهماً للاقتصاديات المحلية يسمح لنا بتجاوز رواسب الحرب الباردة وتقديم تاريخ اقتصادي-سياسي جديد لمجتمعاتنا.

وهذا ما ترومه الأبحاث الجديدة بعدة طرق. ومؤخّراً ظهر في الأوساط الماركسية عملٌ لآن أليكساندر بعنوان الثورة خيار الشعب (2022) يؤرّخ للثورات العربية ضدّ رأس المال. فالجنوب العالمي استدخِل جزئياً في نظام السوق مع الاستعمار الذي قام على طلب المواد الخام للصناعات الرأسمالية. ومع نهاية هذه الحقبة نجحت قيادات أسفل الطبقة الوسطى في انتزاع السلطة وإكمال التحوّل الرأسمالي. ثم جاءت موجة جديدة من الانقلابات العسكرية قدّمت نموذجاً يقال إنه اشتراكي، ولكن التروتسكيين اصطلحوا على أنّه رأسمالية الدولة، وهو مصطلح أصبح مقبولا حتى في الصحف الرأسمالية. وسرعان ما فشل هذا النموذج بسبب الديون والنكسة. ومن حينها دخلنا، حتّى قبل حائط برلين، في الانفتاح. غير أنّ أنظمة الانفتاح، ربّما بسبب المقاومة لها كما في ثورة الجياع في مصر في 1977 والإضراب العام في تونس في 1978 والربيع العربي قد فرضت انشطاراً أو رأسمالية مشقوقة بين رأسمالية الدولة والنيوليبرالية واقتصاد الدعم. وهذا ما أتى بالمنتوج الزّبوني الذي حاول عادلي تجاوزه وهو ما يخلق أزمة في الاقتصاديات العربية.

 لا يستعيض الساسة عن الاقتصاد السياسي على الأقلّ في استشراف الوقائع والتحضير لها. فهذه الأعمال تستشرف، بطرق متفاوتة، وضعية ثورية وشيكة. فعادلي يرى أنّ ما ضمن نجاحاً نسبياً للشرائكية في مصر كان اعتمادها على الطاقة الرخيصة التي سمحت لها بأرباح كبيرة. ومع انهيار هذا فإن الرأسمالية المصرية تتجه إلى أزمة كبيرة. أمّا ألكسندر فترانا مقبلين على موجة ثالثة من الثورات الجنوبية، التي أشعل الربيع العربي موجتها الأولى (2010-2013)، ثمّ لملمها الشتاء الأصولي/الديكتاتوري (2012-2016). وانطلقت موجة ثانية في السودان والجزائر (2018-2019) سرعان ما هدّأها وباء كورونا (2020). والآن انتهت الهدنة. إنّ استهلاك النموذج النيوليبرالي لطاقته في مصر وتونس ولبنان وتركيا لينذر بتحوّلات جذرية. وبهذا المعنى فإنّ الاقتصاد السياسي من حيث هو استشراف الوقائع انطلاقاً من تحليل بنية السلطة والطبقة وعلاقات المجتمع هو فنٌّ تخسَر السياسة كثيراً بهجرانه وتتحوّل في غيابِه إلى لاهوتات وعشائريات.