26-فبراير-2016

بعض مؤيدي السيسي أثناء ترشحه للرئاسة 2014 (Getty)

من بين كل استراتيجيات الهروب من المسؤولية، والتي يسلمها كل نظام للنظام الذي يليه، لا تزال أكثرها غرابة، وأكثرها استخدامًا، هي مطالبة الشعب، بالعمل أكثر. ماذا يعني تحديدًا أن يعمل الناس أكثر؟!

تعتقد الدولة أن بإلقائها مهام وهمية على المواطن، ستجعله ناقمًا على بقية معارفه الذين لم يشتركوا بالحماس الكافي مثله ويراهم هم سبب الفشل

ماذا يفعل بالتحديد الطبيب، أو المهندس، أو الفلاح، موظف الحكومة، سائق القطار، أوعامل المصنع، المدرس أو الأستاذ الجامعي، صاحب المطعم أوالكافيه أو البقالة، عامل النظافة أو الحلاق أو الكمسري، الصحفي أو الفنان أوالمغني؟ لا شيء بالطبع يمكن لكل هؤلاء أن يفعلوه فينعكس ذلك بشكل سريع أو بطيء على اقتصاد البلد. الجميع جزء من منظومات عمل كلية ذات طاقة إنتاجية محددة لن تختلف أبدًا، مهما عمل الناس بجهد أكثر، والطريقة الوحيدة لزيادة إنتاجيتها، هو بتطوير منظومات التدريب ورفع الكفاءة الإنتاجية وتحديث الآلات وتغيير آليات التواصل والإدارة والخطط الاستراتيجية، وهي كلها أشياء في يد السلطة، لا في يد الناس.

اقرأ/ي أيضًا: هيكل..رحيل رجل دين الدولة

لا يختلف عن ذلك حملات التبرع من أجل المشاريع، فالدولة بالفعل تفرض ضرائب على كل شيء، وهذه الضرائب تمثل الجزء الأكبر من دخلها السنوي، وباستثناء حالات قليلة نسبيًا لمشاريع ممولة خارجيًا، فأغلب المشاريع التي تقوم بها الدولة، هي بالفعل ممولة بشكل كامل من ضرائب المواطنين، وأي حملة تبرعات مطلوبة من المواطنين يمكن توفير أضعاف ما ستجمعه عن طريق فرض ضرائب على هذا الشيء أو ذاك، لماذا إذن تستمر الدولة في هذه اللعبة؟

ليس فقط، لأن الدولة تمتلك تراثًا طويلًا من اعتبار المواطنين مشكلة يجب التعامل معها، وترى أن البلد في حد ذاتها قوية وجميلة وذات موارد، لكن المواطنين أزمة كبيرة، فهم أولا، وقبل كل شيء، أكثر من اللازم ولا يتوقفون عن التكاثر ويريدون من الدولة أن تتحمل هي ضريبة شهواتهم الفانية، ثم إنهم غير مؤهلين، لا يعملون بجهد، ويكتفون بنقد أشياء لا يعلمون شيئًا عن تفاصيلها، وعلينا -مثلما نفعل مع الأطفال حين نصطحبهم لأماكن العمل- أن نلهيهم في مهام وهمية حتى يكفوا عن البكاء، كل ذلك جزء من الأسباب التي تجعل الدولة مستمرة في هذه اللعبة، لكن هناك أسباب أخرى.

تعتقد الدولة أن بإلقائها مهام وهمية على المواطن العادي، أنها بذلك تجعله من جهة مشاركًا معها في مشاريعها وإذن مدافعًا عنها في جدوى تلك المشاريع لأنه جزء منها، ومن جهة أخرى تجعله ناقمًا على بقية معارفه الذين لم يشتركوا بالحماس الكافي في التبرع والدعاية لمشاريع النهوض بالبلد.

وتريد الدولة أن يعتبر هذا المواطن الصالح أن سبب فشل المشاريع وانهيار الاقتصاد هو سبب خارج عن سيطرة الحكومة الخيرة، كما عن سيطرته هو المواطن الصالح، السبب في الآخرين، أعداء الوطن، المعارضين، المنتقدين دون تقديم بديل، أقاربه وأصدقائه وزملائه في العمل الذي يسخرون من السلطة، وعليه، إن لم يكن سيبلغ السلطات عنهم، أن يصب عليهم جام غضبه حين يفشل كل شيء.

اقرأ/ي أيضًا: مصر..معارك الاستعراض والاستعراض المضاد

فالمشاريع تنهار، لا بسبب أخطاء استراتيجية أو مشاكل فنية، ولا بسبب عدم وجود دراسات جادة قبل البدء فيها، بل بسبب السخرية من جدواها، وعلينا أن نوقف هؤلاء المتهكمين، أعداء الوطن، عند حدهم، لتكون عندنا فرصة للنهوض. هنا يتحمس المواطن الصالح للقبض على كل مخالف ومعارض ومتهكم، لتواجهه مشكلة جديدة..أعداء الوطن لا ينتهون، وكلما قتلنا عددًا منهم، واعتقلنا عددًا منهم، خرج جزء آخر من الشعب ليتهكم وينتقد هو بدوره، هنا يكتئب المواطن الصالح، يتأمل في الوجود، يستمع لإعلام الدولة، يخرج إلى البلكونة، يشعل سيجارة كيلوباترا سوبر، ويغوص في تفكير عميق ومعقد، ليصل إلى أن العيب الحقيقي الذي يجعل البلد منهارة دومًا هو.. الناس.

العيب في المواطنين العاديين، الذين لا يدركون النعمة التي يرفلون فيها، ولا يقدرون جهود الأنبياء المجتمعين في مجالس الوزراء، ولا ينظرون بعين الإجلال لإخلاص المواطنين الصالحين، الشعب سيء وبغيض، ويجب تربيته مرة أخرى، ينهي المواطن الصالح النفس الأخيرة في السيجارة، يلقيها إلى الشارع في غضب، فالمواطن اكتشف أن الجميع هم السبب، يعود إلى حجرته، يفتح حساب الفيسبوك، الذي أنشأه له ابنه، يكتب "البلد دي مش هتنهض طول مانتوا قاعدين تتريقوا على كل حاجة، يا أعداء الوطن يا خونة، تحيا مصر، تحيا مصر، تحيا مصر"، ثم يرسل رسالتين للحساب الذي طلبت منه الدولة الإرسال إليه للتبرع لنهضة البلد.

وهنا يكون اكتمل دور المواطن الصالح، الدفاع عن الحكومة ونقد الناس، فالدولة لا تريد منه أكثر من ذلك، وهي بالطبع لن تستشيره في شيء، ولن تعطيه حرية اختيار أي شيء أو محاسبتها على أي شيء أو مراقبتها في أي شيء، هو بالوقت سينسى أصلا أن مراقبة الحكومة ومحاسبتها جزء من حقوقه، لكن الزمن غدار، وحين سيجد المواطن الصالح عيبا هنا أوهناك لا يمكن السكوت عنه، أو يؤذيه بشكل شخصي، ليبدأ انتقاده آملا أن يسمعه أحد بعد جهوده في محاربة الخونة، سيكتشف أن هناك مواطنًا صالحًا آخر، يطلب منه الكف عن انتقاد كل شيء، وسيفعل ذلك، لأنه لا يريد أن ينضم لأعداء الوطن الذين خاض ضدهم معارك يتحاكى عنها الناس، أو تحديدًا يحكي هو عنها لزوجته في المساء، ولن يجد أمامه أخيرا سوى أن يكتئب أكثر، ويشعل سيجارة أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: 

تكلفة بقاء نظام السيسي

الفرعون ب"5جنيه" والحسابة بتحسب