11-فبراير-2016

ضباط في الجيش المصري أثناء احتفالات افتتاح "قناة السويس الثانية"(Getty)

يمكن النظر لأزمة "السجادة الحمراء" على أنها إحدى معارك المشهد بين النظام في مصر وبين معارضيه، الخلاف حول السجادة شديدة الطول التي تم فرشها على طول ثلاثة كيلومتر ليسير عليها موكب السيسي في طريقه لافتتاح مشروعات في مدينة 6 أكتوبر، هو خلاف حول إحدى الخصائص الجذرية لنظام السيسي: الاستعراض.

يفوت السلطة أن المشاهد الفخمة لا تصلح دومًا كحل للهروب من الفشل، مع الوقت سيعزف الناس عن الافتتان بالمشاهد، لصالح المطالبة بإنجازات حقيقية

منذ مجيئه للسلطة، والسيسي مولع بصناعة المشاهد الفخمة، الولع الذي يفسره كونه آتيًا لتحطيم ثورة مشهدية مثل ثورة يناير، التي طغى عليها الاهتمام الفيتشي بصور الحشود وصور اللافتات الطريفة ثم صور طوابير الانتخابات، ثم صور الاشتباكات، والاحتفاء بكل تلك المشاهد، كانتصارات في ذاتها.

ولكونه أتى ليحارب يناير، يختزن نظام السيسي نفس الولع بصنع المشاهد الفخمة، بداية من المشهد الفخم لمظاهرات 30 يونيو، ثم مشهد إعلان الانقلاب العسكري بحضور رموز كل التيارات عدا الإخوان، ثم مشهد تنصيب السيسي كرئيس، ومشاهد افتتاح المشاريع الكبرى، مشهد المؤتمر الاقتصادي، ومشهد افتتاح "قناة السويس الثانية" التي ذهب إليها وهو على متن مركب، وعشرات المشاهد الصغيرة الأخرى.

كان الغرض المشهدي لهذه المشاريع كلها، رغم ميزانيتها الضخمة، أهم للنظام من غرضها الاقتصادي. النظام الذي يبرر نفسه بأنه أتى ليستعيد "هيبة الدولة" بعد "فوضى الثورة" وحكم الإخوان، لا يجد ما يقنع به مؤيديه بقدرته على استعادة الهيبة سوى بصنع المشاهد الكبرى، المشاريع الضخمة يجري الإعلان عنها، لغرض الإعلان عنها، أو لغرض الاحتفال بافتتاحها، وليس لأي جدوى اقتصادية أو اجتماعية لهذه المشاريع.

الأغراض المشهدية هي ما تبرر، مثلا، صنع النظام لملحمة "قناة السويس الثانية" من بداية الإعلان عنها، إلى حفل افتتاحها، رغم كل النقد الاقتصادي المبني على حقيقة تراجع حركة الملاحة البحرية الدولية، واحتمالية ألا تكون هناك حركة ملاحة كافية لتشغيل قناة السويس بطاقتها الكاملة فضلًا عن الاستفادة بالتفريعة الجديدة التي كانت مهمتها تسريع الحركة وتقليل وقت العبور وإذن زيادة عدد السفن التي تعبر القناة. لكن السلطة أدارت ظهرها لكل هذا النقد، بل وضغطت الوقت المفترض لإنجاز المشروع، لحاجتها لانتصار مشهدي سريع، ترمم به شرعيتها، حتى لو كلفها ذلك مضاعفة تكلفة المشروع عدة مرات، والتسبب في أزمة دولار واسعة، لصرفها الكثير من مخزونها النقدي الدولاري في المشروع.

ولعل النقد الوحيد الذي يمكن أن تراه السلطة -الآن- في مشروع قناة السويس الثانية، لا تكلفته الاقتصادية غير المبررة، بل أن شحنته الرمزية لشرعية النظام، الذي أجبر المحلات في العاصمة على تعليق لافتات تحتفل بافتتاح "القناة الثانية" كأنه انتصار ملحمي لا يقل عن تأميم القناة في عهد النظام، سرعان ما تآكلت، كل هذه الأموال المهدرة والاحتفالات الضخمة والمشاهد المصممة، انقضى أثرها بعد أسابيع قليلة، واحتاج النظام بسرعة لمشاهد أخرى.

الولع بالمشهدية، إثبات الانتصارات عن طريق مشاهد مركزة، يصنعها النظام ليقنع مؤيديه بأنه على الطريق السليم، وليمدهم أيضا بحجج خطابية ليستخدموها في ردودهم على مخالفيهم، الولع الذي يأتي أيضا لتغطية حاجة مؤيدي النظام لانتصارات من هذا النوع، لا إنجازات في الطريق، لكن على الأقل يمكن الاحتفال بالمشاهد. لا يهم أن تكون الدولة قوية، لكن يهم أن تكون صور الخطابات متقنة، ولا يهم أن يكون الاقتصاد في حالة جيدة، لكن يهم أن يكون هناك مؤتمر اقتصادي كبير يمكن الخروج منه بكمية صور جيدة تصلح للتدليل على هيبة الدولة ونجاحها.

لكن، على ذلك، يبدو أن الكلفة الضخمة لمشهد قناة السويس الثانية وأثره سريع الزوال، قد أقنع النظام بترك فكرة المشاريع المشهدية الكبرى، لصالح صنع مشاهد صغيرة للاستفادة منها، وتأتي أزمة السجادة هنا كواحدة من هذه المشاهد الصغيرة. في الأغلب كان العقل الذي يقف خلف فكرة استخدام سجادة شديدة الطول مثل هذه، ليعبر عليها موكب السيسي، يرى أن المشاهدين المحتملين، سيفرحون جدًا بهذا المشهد، وسيرونه دليلًا على فخامة السيسي وهيبته، وبالتأكيد فوجئ مخرج المشهد برد الفعل الساخط على إسراف رئيس يطالب الشعب بالتقشف، وهو ما أدى إلى سلسلة من التبريرات شديدة السخف، بداية من مؤيدي النظام الذي جادلوا أن السجادة الحمراء لم تكن سوى دهان أحمر على الطريق، وليس انتهاءً بالتصريحات الرسمية التي بررت تكلفة استخدام السجادة، بأنها سجادة موجودة بالفعل لديهم، وسوف يستعملونها في المستقبل، وإذن تصبح تكلفتها مبررة.

ما يفوت السلطة هنا، أن المشهدية التي ساعدتهم على ترسيخ سلطتهم في البداية، لا تصلح دومًا كحل للهروب من فشلهم في إدارة الدولة، بالوقت سيعزف الناس عن الافتتان بالمشاهد، وهو العزوف الذي تحاول المعارضة التسريع من وتيرته بالسخط على أي مشهد يصنعه النظام، لصالح المطالبة بإنجازات حقيقية.

المقاومة بالمشهد

لكن ليس النظام وحده من يلعب لعبة المشهد هذه، فيبدو أن قضاء الدولة على فكرة الاحتجاج السلمي سواء بالتظاهر أوالاعتصام، خلق معه المقاومة بالمشهد، وهو ما يمكن رؤيته فيما حدث في الذكرى الخامسة لثورة يناير، حيث لم تتم أي دعوات ضخمة للتظاهر، لكن المقاومات المشهدية الصغيرة تصدرت النقاشات.

يلجأ المعارضون للاحتجاجات المشهدية في انتظار أن تراكم هذه الاحتجاجات بالوقت، شجاعة جمعية تكفي للخروج من مقاومة بالمشهد، إلى المقاومة بالفعل

سارت سناء سيف في مظاهرة فردية فريدة بمفردها من ميدان مصطفى محمود إلى ميدان التحرير، وقام شادي ومالك بإهداء بلالين الواقيات الذكرية إلى الجنود في التحرير، ما أثار حالة واسعة من الهجوم والهجوم المضاد، في معركة رمزية بديلًا عن معارك ميدانية لم يعد في قدرة الكثيرين المغامرة للقيام بها.

أيضا، احتفى الكثيرون بطريقة إحياء ألتراس الأهلي لذكرى شهداء بورسعيد، وغنائهم لأغانيهم التي تحيي الثورة وترفض المجلس العسكري، كما تم الاحتفاء بصور ألتراس وايت نايتس وهو يحيي ذكرى شهداء الدفاع الجوي، وفي كل ما سبق، كان الحدث يعطي أثره، كلما تمكن من خلق مشهد جميل، يصلح للتصوير، أكثر من أثر الحدث المادي نفسه.

ولهذا قد يكون الفعل الاحتجاجي للشاب الذي قام بالوقوف صامتًا في أحد شوارع وسط البلد، مكمِمًا فمه، ويلصق مجموعة من الشعارات والمطالب على جسده، لكنه يرفض أن يتم تصويره، هو فعل احتجاجي قد أخطأ هدفه، فالمبادرات الفردية مثل هذه، تعتمد بالأساس على قدرتها على خلق مشهد محفز للتفكير والإلهام، وتصبح هذه المبادرات عديمة المعنى ما لم تصور. المظاهرات تعتمد، بجوار مشهديتها، في وصولها للناس على حركتها بينهم، على احتلال الشوارع لفترة لجذب الانتباه، بينما المبادرات المشهدية، هي أفعال احتجاجية، تعتمد على مشهديتها وحدها لتوصيل رسالتها للناس، في انتظار أن تراكم هذه الاحتجاجات بالوقت، شعورًا عامًا بالتضامن، يفرز شجاعة جمعية تكفي للخروج من مقاومة بالمشهد، إلى المقاومة بالفعل.

اقرأ/ي أيضًا: 

مصر..المدنيون أمام القضاء العسكري

مصر..من قتل الإيطالي "جوليو ريجيني"؟