08-ديسمبر-2015

الرئيس التركي رجب طيب أردوغان (Getty)

"لا عجب أن أردوغان يستمر في الفوز. فخصومه ليسوا على قدر التحدي"، كتبها العضو السابق بالبرلمان التركي والكاتب، سوات كينكليوغلو، في معرض مقاله بمجلة فورين بوليسي. تبدو مقولته صحيحة في ضوء النتائج المدهشة لانتخابات الأول من نوفمبر بتركيا، التي سجلت عودة مميزة للرئيس رجب طيب أردوغان وحزبه (العدالة والتنمية)، لتسجل مفاجأة كبيرة للمراقبين الأتراك والخارجيين على حد سواء.

 يفتقد قادة المعارضة الكاريزما، ما يصعب عليهم المنافسة داخل إطار الثقافة السياسية التركية القوية

خسر حزب العدالة والتنمية أغلبيته لأول مرة منذ عام 2002 في انتخابات يونيو، وتطلع خصوم أردوغان إلى انحسار آماله عقب تلك الخسارة. كما لم يتوقع أي من شركات استطلاعات الرأي العام الثلاث والعشرين في تركيا عودة المصوتين مجددًا إلى حزب العدالة والتنمية، الذي حصد حوالي 9% (حوالي 4,8 مليون صوت) وتسعة وخمسين مقعدًا إضافيًا في البرلمان. بعد أن أنتجت انتخابات الصيف، البرلمان التركي الأكثر تنوعًا على الصعيد الديني منذ الخمسينيات، حيث ضم ثلاثة نواب أرمن رسوليين، وعربي أرثوذكسي، ومسيحي سرياني، ويزيديين.

لابد لتلك النتيجة أن تستدعي إلقاء نظرة أوثق على الوضع البائس لأحزاب المعارضة التركية. تتكون ساحة المعارضة التركية من ثلاثة أحزاب رئيسية، وتبدأ من اليسار بحزب (الشعوب الديمقراطي) المناصر للأكراد، وعلى يمينه، حزب يسار الوسط (الشعب الجمهوري)، وعلى أقصى اليمين يقبع حزب (الحركة القومية). واجه الأحزاب الثلاثة صعوبات كبيرة في مجابهة الاستغلال الميكافيلي من جانب أردوغان للتخوف العام لدى الشعب التركي من زعزعة الاستقرار واحتمالية هبوط الاقتصاد بعد انتخابات يونيو، التي أحرز فيها حزب الشعب الجمهوري مكاسب متواضعة، بينما لقي الحزبان الآخران خسائر فادحة.

أتت تلك الخسائر لتتوج سلسلة من خيبات الأمل التي نالتها المعارضة التركية. فمنذ عام 2002، خسرت أحزاب المعارضة التركية الثلاث خمس انتخابات برلمانية متتابعة، وثلاث انتخابات محلية، ودورة انتخابية رئاسية، واستفتائين شعبيين.

تعود تلك الخسارة إلى عدة أسباب، بدءًا بالنظام الانتخابي التركي، حيث تطبق تركيا واحدة من أعلى نسب "العتبات الانتخابية" في العالم (10%)، والتي تعتبر غير ديمقراطية إلى حد كبير. كما يعتمد نظام الأغلبية البرلمانية لديها على مبدأ "الفوز للأكثر أصواتًا"، الذي يعطي لحزب العدالة والتنمية الأغلبية العظمى مع إعاقة تمثيل الأحزاب الأصغر. إلا أن ذلك لم يقلق نخبة الحزب أبدًا، بل دائمًا ما استغلته لتعزيز حصتها من المقاعد البرلمانية.

كما يفند كينكليوغلو عدة أسباب لتلك الخسائر، فقد فعل أردوغان كل ما يمكن ليضمن أن الظروف ستكون غير عادلة بشكل فج. حيث لعب بقوة، وبقذارة، بالكروت الإثنية، والطائفية، والدينية، لدرجة أعجزت أحزاب المعارضة عن الرد. كما أن حزب أردوغان يتمتع بحق الوصول إلى تمويلات البلديات المحلية، بالإضافة إلى تبرعات رجال الأعمال السخية، والتي فاقت مصروفات أحزاب المعارضة الثلاث.

ولكن من غير العادل إلقاء كامل اللوم على حزب أردوغان وأساليبه، بل يتعين تحميل أحزاب المعارضة جزءًا من المسؤولية، فناهيك عن سوء تنظيم أعضائها وعدم كفاءتهم في مواجهة الماكينة السياسية الماكرة لحزب العدالة والتنمية، يفتقد قادة المعارضة الكاريزما، ما يصعب عليهم المنافسة داخل إطار الثقافة السياسية التركية القوية. وبينما تقدم حزب الشعوب الديمقراطي في انتخابات الصيف، تعثر في انتخابات الإعادة بسبب التصورات المتعلقة بكونه مناصرًا للأكراد بشكل رئيسي، وله علاقات مشبوهة بحزب العمال الكردستاني، وهو التنظيم الكردي المسلح الذي يقاتل الدولة منذ عام 1984.

اعتبر بعض المحللين، مثل جراهان إي فولر، المسؤول السابق بوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، أن أردوغان قد استغل سلطته من أجل إنهاء أي فرصة لتحقيق الاتفاق. ففي يوليو الماضي، أعلنت أنقرة عن تدشينها لأعمال عسكرية ضد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والتي استهدفت الأكراد أيضًا، لمفاقمة الشقاق المتكشف على الساحة التركية. ما يؤدي بدوره إلى تعزيز صعوبة تحقيق الاتفاق وتشكيل حكومة ائتلافية. وفي ضوء نتيجة انتخابات نوفمبر، يبدو أن أردوغان قد نجح بالفعل في ذلك.

وفي سياق آخر، تأسس حزب الشعب الجمهوري، وهو أكبر أحزاب المعارضة، على يد الأب المؤسس للجمهورية التركية –مصطفى كمال أتاتورك– وظل قوة مهيمنة على المشهد السياسي التركي حتى عام 1950. كما يحمل الحزب إرثًا سياسيًا كبيرًا بسبب ارتباطاته بالحكم الغليظ في العقود الأولى للجمهورية، وقربه من الجيش، الذي تدخل بشكل متكرر في السياسيات التركية لفرض الرؤية العلمانية لأتاتورك. أما اليوم، فيمثل الحزب البيت الطبيعي لعلمانيي تركيا ويسارييها المعتدلين. ولكنه واجه صعوبات في الوصول إلى المحافظين، الذين يمثلون القطاع الأكبر من الناخبين. ولكن ميله العلماني لا يساعده على تحقيق ذلك، كما يعيقه أيضًا أعضاء الحزب الأقدم، الذين يعتبرون غير ودودين تجاه الأعمال التجارية. وعلى الجانب الآخر، يعتبر حزب العدالة والتنمية ودودًا تجاه أصحاب الشركات الصغيرة ومتوسطة الحجم. بينما تعتبره الشركات الكبرى الشيطان الذي يعرفونه.

يتربع على عرش الحزب، منذ عام 2010، كمال كيليكداروغلو، المنتسب للقطاع العلوي التركي، وهي أقلية تركية تمارس صورة مستقلة من الإسلام. وبفضل سياسات الهوية التركية المستقطِبة، يضمن ذلك للحزب تمتعه بدعم العلويين، الذين يشكلون ما بين 10% إلى 20% من الشعب، أو حوالي 8% من الناخبين.

إلا أن الحزب يواجه صعوبات في اجتذاب المصوتين المحافظين، فالمشكلة الأساسية للحزب، حسبما يرى كينكليوغلو، أنه يتوافق مع جزء ضئيل من المجتمع، والذي بالكاد يشكل 25% من المصوتين. كما أن ثقافته المؤسسية ساكنة وغير منفتحة للتغيير. وبالتالي، لم يتمكن الحزب من بناء الماكينة السياسية الفعالة اللازمة لمنافسة حزب العدالة والتنمية المجتهد والساعي وراء النتائج الجيدة.

يأتي حزب الحركة القومية في المرتبة الثانية، كثاني أكبر حزب تركي معارض، والذي شهد انخفاض أصواته بما يقارب مليوني صوت بعد الأول من نوفمبر، ما يجعله الخاسر الأكبر في الانتخابات. يرجع أداؤه السيئ بشكل رئيسي إلى المواقف المتصلبة والشاذة التي يتبناها رئيسه، دولت بهجلي، الذي رفض بشكل صريح في ليلة الانتخابات الصيفية احتمالية الانضمام إلى ائتلاف يضم أي حزب آخر. حيث أنه قد اعتقد على نحو خاطئ، حسبما تبين لاحقًا، أن حزب العدالة والتنمية سيستمر في الخسارة في استطلاعات الرأي، وأن حزبه يمكنه الانتفاع من دورة الإعادة بعد فشل محادثات الائتلاف.

كما يشتهر بهجلي بحساسيته تجاه أي معارضين داخليين محتملين. فقد فصل عدة مرات قادة آخرين من الحزب، بعد أن بدوا بشكل محتمل متحدّين لهيمنته. ومما لا يعد مفاجئًا، أن الأداء الانتخابي السيئ للحزب قد أثار عددًا من التحديات القوية للقيادة – يبقى أن نرى إن كان المتحدّون سيتمكنون من انتزاع القيادة من قبضة بهجلي.

على الجانب الآخر، وعلى خلاف حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية، لا يعاني حزب الشعوب الديمقراطي من القادة المتصلبين أو القيادة المستبدة. بل يتمتع هذا الحزب الجديد بقائد فعال وله كاريزما، صلاح الدين دميرتاز، وهو محامي وناشط في مجال حقوق الإنسان. كما نفذ الحزب في الانتخابات الصيفية حملة رائعة تميزت بالنكتة الذكية، والحيوية، والصبر الاستراتيجي، ما سمح له بالفوز بنسبة تاريخية، 13,1% من الأصوات، وهي نسبة لم يحققها مطلقًا أي حزب مناصر للأكراد. تعود جذور نجاح الحزب إلى قراره بالتخلي عن برامج سابقيه المرتبطة بالأكراد بشكل حصري، وتقديمه لرسالة وطنية.

إلا أن الرياح أتت بما لا تشتهي القيادة الكردية، فبعد انتخابات يونيو، اندلعت مجددًا مواجهات عنيفة بين حزب العمال الكردستاني والدولية التركية وسط ظروف غامضة، لتنهي عملية سلام استمرت لثلاث سنوات. قتل حزب العمال الكردستاني 167 فردًا أمنيًا في الفترة السابقة لانتخابات نوفمبر، ما سمح لأردوغان بربط حزب الشعوب الديمقراطي بالعنف وعدم الاستقرار في عيون المصوتين، وهي رسالة ضخمتها وسائل الإعلام الصديقة لحزب أردوغان.

في أعقاب ذلك، أصبح المناخ السياسي مضطربًا وقاتمًا بشدة. حيث وجد حزب الشعوب الديمقراطي نفسه فجأة محاصرًا بين حزب العدالة والتنمية، الذي استغل الفرصة ليشيطنه، وحزب العمال الكردستاني، الذي بدا منزعجًا من صعوده المفاجئ. تقطع تلك المعادلة شوطًا كبيرًا في سبيل تعليل سبب نزيف حزب الشعوب الديمقراطي لحوالي مليون صوت في انتخابات نوفمبر. فمن الجدير بالملاحظة أن الحزب قد أضحى وحيدًا بعد تخلي العديد من المصوتين الأكراد عنه، الذين فضلوا الاستجابة لوعود حزب العدالة والتنمية بالاستقرار، حتى مع شنه لحملة عدوانية ضد القومية الكردية.

في ضوء عدم استعداد الجمهور الانتخابي التركي لمواجهة نتيجة انتخابية غامضة، مع اضطراب الاقتصاد، فضّل العودة إلى أحضان حزب العدالة والتنمية

أسهم فشل المعارضة في تكوين ائتلاف في أعقاب انتخابات يونيو -عندما أتيحت لها الفرصة لتهميش حزب العدالة والتنمية إثر الهبوط المؤقت في معنوياته- في إقناع المصوتين بشكل أكبر بأنها غير مؤهلة لمهمة الحكم. وفي ضوء عدم استعداد الجمهور الانتخابي التركي لمواجهة نتيجة انتخابية أخرى غامضة، مع اضطراب الاقتصاد، فضّل العودة إلى أحضان حزب العدالة والتنمية.

يبدو أن أردوغان قد نجح في حصار الناخبين الأتراك أمام خيارين مصيريين، فإما أن يعيدوا له أغلبيته، أو سيواجهون حزب العمال الكردستاني وإرهاب تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والركود الاقتصادي، والفوضى. بينما فشلت أحزاب المعارضة الثلاث في إدراك افتقاد الناخبين للاستقرار السياسي ووضوح المستقبل الاقتصادي.

يقع الآن حزبا الشعب الجمهوري والحركة القومية في بحر من الفوضى، فخلال ساعات من الانتخابات بدأ المعارضون داخل الحزبين في تحدي قادتهم. إلا أن المعارضة بشكل كلي تواجه مشكلات أكثر عمقًا.

يتعين على حزبي الشعب الجمهوري والحركة القومية إجراء إعادة هيكلة جذرية وبناء ماكينات سياسية فعالة، والتي ستكون قادرة على منافسة حزب العدالة والتنمية. وعلى الجانب الآخر، يحتاج حزب الشعوب الديمقراطي إلى توضيح طبيعة علاقته بحزب العمال الكردستاني، وأن يدعم وعده بأن يصبح حزبًا تركيًا وطنيًا. فبينما أسر خيال العديد من الأتراك قبل انتخابات يونيو، كبده عجزه عن فك ارتباطه بعنف حزب العمال الكردستاني خسائر فادحة.

في ضوء الهيمنة المطلقة لحزب العدالة والتنمية على النظام السياسي وشبكات المحسوبية المكثفة التابعة له، سيكون من الصعب هزيمته في الساحات الانتخابية التالية. ستحتاج المعارضة التركية إلى إعادة طرح ذاتها حتى تصبح بديلًا له مصداقية. وحتى يحدث ذلك، سيستمر أردوغان في الهيمنة على المشهد.

اقرأ/ي أيضًا: 

أوباما..السير على خط رفيع بين أنقرة وموسكو

كيف خسر أردوغان الليبراليين؟