04-سبتمبر-2015

باريس ابنة متمردة لا تنصاع لأهلها (أ.ف.ب)

يتفرع الشارع من شارعين. والشارعان يتفرعان من عدة شوارع أخرى. باريس متشعبة على نحوٍ حميمي، بحيث أن شوارعها متلاصقة، وتكاد تكون للشوارع أذرع تمتد وتتشابك مع بعضها البعض. الشمس ليست وافرة ورغم ذلك يكون الضوء رحبًا، حتى وإن كان خافتاً. يتوزع الضوء على الجميع بالتساوي، وكذلك العتمة. ملامح المارة تنقسم بين تدرجات الكآبة، لتصل أحيانًا إلى ابتسامٍ يتصالح مع المشهد.

في الشارع الخلفي يضج السواح ويعيثون فسادًا بالأزقة. هنا "رو موفتار" الشهير. يقفون في طابورٍ طويل لتناول الحلويات ذات التسمية اليونانية، أو يتجمعون كقطعان الذئاب أمام الحانات، منبهرين بالعمارة وبالأوساخ المتروكة على جوانب الطرق، لتصنع حياةً في مدينة. لا يعني ذلك أن المدن المتسخة هي المدن الحقيقية. لكن البقايا تدل على ألفةٍ مع المكان، وأن الألفة يجب أن لا تفيض عن حدها، فتصير المدينة خرابًا.

تدل البقايا على ألفةٍ مع المكان

في شارع دوبانتون المحاذي الألفة معقولة. السواح أقل، المدينة تتنفس. المقاهي قريبة من بعضها، وأحياناً تفصل بينها زواريب. الحانات لا تشبه الحانات التي نعرفها في بيروت، لكن ثمة ما في هويتها يدل على نحوٍ لا يترك أي مجال للشك في أنها حانات. أمام أحد هذه الأبواب يقف رجل من أصول أفريقية. يبدو مرحاً كما لو أنه في حفلة. ينتظر بدء المباراة المنقولة عبر شبكة عربية، وبتعليق فرنسي. رويدًا رويدًا يدلف العابرون إلى الحانة، وإلى جاراتها. يمتلئ المكان بلا صخب، كأنما الزائرون يتعمدون الهدوء، لكي لا يحدثوا ضجيجاً يلفت انتباه الذين يكنسون الشوارع القريبة. يريدون أن يبقى الشارع مستلقيًا في الزاوية، حتى تنام باريس، ولا تهاجمه قطعان الذئاب، بكاميرات معلّقة في رقابهم، وهواتف ذكية يصوبونها إلى المباني كما لو أنها أسلحة.

تقول إيتل عدنان "عندما تمطر في باريس، تفتح أوروبا مظلاتها". يسقط مطرُ خفيف على دوبانتون، وهو أشبه بزقاق لا سمعة له ولا شهرة. مثل جميع المباني في مدينة الأنوار، تطل نساء أو يظهر رجال بين الحينة والأخرى، فوق أوعية الورود التي تحرس النوافذ. يتحسسون ويتحسسن قطرات المطر الزائرة، أو المقيمة، لشدة هطولها الذي لا يخلو من البراءة، على مدار الفصول. والمقيمون في الحيّ شجعان، يتركون المظلات لأوروبا. لا مظلات في دوبانتون، الألفة مستمرة. يقذفون أبصارهم إلى الشوارع، يتفقدون المدينة، ابنتهم. وباريس ابنة متمردة. لا تنصاع لأهلها. ويذّكر هذا بطريقة ما، لا يمكن شرحها، ببيروت. بيروت ابنة باريس، لا ابنة أهلها.

بيروت مدينة استسلمت أخيرًا. الضواحي فيها تتخذ أشكالًا أخرى، وتتقاطع لحسابات أخرى، غير حسابات الضواحي الباريسية.. دعك من كل هذا. عندما أمطرت في دوبانتون تذكرت بيروت، وأمسك بقلبي حنين كالنسيم. غادرت الكرسي ومشيت إلى أقرب مترو. وجدت المنتظرين في أمكنتهم، ينتظرون صفارة الإنذار. صعدت إلى المترو، وفي بالي أنه يذهب إلى بيروت، لا إلى "السيتيه أونيفرسيتير". تجاهلت الوجوه المستسلمة في زحمة الأنفاق، واستعضت عنها بوجوه من ذاكرتي. وجوه لا أعرفها، لكنها تضحك. تتفرع في ذاكرتي، كتفرع الشوارع من موفتار إلى دوبانتون. وجوه تنتهي عندما يطلق المترو صفارته مجددًا، ويدعوك للنزول في محطةٍ جديدة. كما لو أن بيروت محطة سابقة، وأنت على علمٍ بأن مترو الذاكرة لا يمشي إلى الوراء.