18-يناير-2016

حسني مبارك أثناء إحدى جلسات محاكمته (Getty)

يحار الفكر كثيرًا أثناء الوقوف عند حسني مبارك، الرئيس المصري الذي جلس في الحكم قرابة الثلاثين عامًا وأطيح به في الخامس والعشرين من يناير لتنتقل مصر إلى مرحلة جديدة من تاريخها، إلا أن هذه المرحلة الجديدة لم يخرج منها مبارك كما اعتقد البعض.

تعمد مبارك استخدام عبارة أمن واستقرار البلاد في الكثير من خطاباته، الأمر الذي جعل كثيرين يصدقون هذه المقولة طيلة فترة حكمه

مبارك تم محو اسمه من المنشآت الرسمية وأزيلت جميع صوره من الأماكن الحكومية فور تنحيته في مشهد يوحي بالانتصار، وحينها اعتقد الكثيرون أنه سيحاكم في قضاء عادل على جميع تهم الفساد التي تسبب فيها على مدار الثلاثين عامًا.

وهم الاستقرار

تعمد مبارك في استخدام عبارة أمن واستقرار البلاد في خطاباته، الأمر الذي جعل كثيرين يصدقون هذه المقولة طيلة ثلاثين عامًا ويعتقدون أن لولاه لعمت الفوضى البلاد كما أشار مبارك في إحدى خطاباته، وهنا يقول علاء الرميحي العضو بحزب الدستور أن المصريين ينظرون إلى العامل الأمني في الأساس، ويرى أن أسباب الترحم على فترة حكم الرئيس مبارك كان سببها حالة الانفلات الأمنى التي تلت الثورة وتتابعت معها تطورات الأحداث في دول الربيع العربى.

مبارك الذي أطيح به من كرسي الحكم وبقيت منظوماته بأكملها، فرجال أعمال مبارك يتوسعون في البلاد مع ازدياد فرصهم وتعديل القوانين لصالحهم دون وجود أي صدى لمشاريعهم واستثماراتهم على حياة المصريين، ويرى الرميحي ذلك دليلاً على أن المصري لا يلتفت للوضع الاقتصادي مهما بلغ من السوء بقدر نظرته للمشهد الأمني.

مبارك أيضًا صاغ مفهومًا للأمن يتفق مع مصالحه ويخدم كرسي الحكم، الأمن الذي اعتمد على صرف الأذهان عن الحقوق في الحياة الكريمة والمعيشة الآمنة والرضا بكل ما هو سيئ خشية حدوث الأسوأ، تقول سوسن السخاوي ذات الخمسين عامًا أن مبارك كان يوفر الأمن فقط لداعميه والساكتين عن الفساد، فما كانت تفعله الشرطة مع المخالفين والمعارضين كان خير دليل على أنه أمن مزيف.

الإعلام كان السلاح الأقوى في عصر مبارك حيث نجح في صناعة نوع من الأمن الوهمي في وعي المواطنين كما ترى سارة عبد الحميد إحدى شباب يناير، إحساس الأمن ذلك كان على الرغم من أن الجرائم وحوادث السرقة والاختطاف كانت منتشرة، فضلًا عن الاعتقالات وكل ما كان يحدث من تعذيب وانتهاك للكرامة في أقسام الشرطة، فالمصريون كانوا يدخلون أقسام الشرطة وهم مطأطئي الرؤوس.

إرث مبارك

ما شهدته مصر طيلة فترة حكم الرئيس مبارك كان كفيلًا بأن يجعل منه مجرمًا في نظر الجميع، فالأمر ليس متعلقًا فقط بتدني الأحوال الاقتصادية وانهيار البنية التحتية وتدهور الأوضاع الصحية واختلال منظومة الأمن وانتشار صور الفساد في كافة مناحي البلاد، بل هو متعلق بالإنسان الذي فقد أبسط حقوق آدميته في التعبير ورفض الظلم الواقع عليه.

فالطبقة الوسطى وهي صمام أمان المجتمع قد تلاشت بفضل نظام مبارك، فهذه الطبقة كما تقول السخاوي دخل عليها مبارك قبل حكمه واختفت معه حيث انقسم المجتمع إلى فئتين إحداهما فاحشة الثراء والأخرى معدومي الدخل وهو ما انعكس على كافة مناحي الحياة فهناك من يسكنون القصور وهناك من يسكنون العشوائيات، وهناك من يتعلمون في مدارس دولية وهناك من يخرجون من التعليم.

صحة المصريين كانت ولا تزال معيار مهم للحكم على فترة مبارك، فما أصاب المصريين من أمراض مزمنة طيلة هذه الفترة لم تمر عليهم من قبل حيث يقول الرميحى أن ما فعلته المبيدات المسرطنة ومياه الشرب الملوثة تسبب في كوارث صحية خاصة القطاع الريفي وأصبحنا نسمع "منه لله هو اللي آذانا بالسرطان".

الجهل هو الوباء الذي يستغرق الشفاء منه فترات طويلة، فالإنسان المغيب كما تراه أبو زيد هو غير القادر على تمييز الحقيقة من الكذب، وهكذا هو حال المصريين اليوم ممن يعتقدون أن ما نعيش فيه اليوم من سوء الأحوال الاقتصادية سببه الرئيسي هو الثورة وليس حصاد سنوات الفساد طيلة الثلاثين عامًا التي حكمها مبارك.

استراتيجية ترسيخ اللامبالاة

تعرض المصريون طوال فترة حكم مبارك إلى عملية تغييب ممنهجة، فتخريب دور التعليم والفكر وتقليص دور المؤسسات الدينية، وإهمال المؤسسات الثقافية وإغلاق منافذ التعبير وإبداء الرأي كل ذلك كان بيئة حية للانغلاق الفكري والانطواء على النفس والتفكير في الذات وهو ما يجعل طريق التغيير طريقًا شاقًا وصعبًا.

التفكير الجمعي هو الذي يجعل من الناس أمة وشعب وهو ما اختفى بقوة في عصر مبارك حيث أصبح التفكير الفردي هو الطاغي كما ترى أبو زيد، فالمبدأ السائد هو" خلينا في حالنا أو "ملناش دعوة" مما يعبر بصراحة عن انتشار ثقافة الاتكالية والاعتماد على الآخر في حل المشاكل دون القدرة على مواجهتها، فمن أخطر آثار التفكير الفردي الذي حل بالمصريين كما تعتقد أبو زيد هو بروز فكرة "من ليس معي هو ضدي" أي من لا يتفق مع معتقداتي وآرائي فهو عدوي.

فالمصريون مازال حديثهم لا يخلو من عبارات تدل على تجذر عقلية الخوف في النفوس، وفي عبارتي "هنروح ورا الشمس" و"عايزين نربي العيال" يقول الرميحي إن المصريين يعبرون بها ليريحوا أنفسهم من مجرد الاقتراب من أحاديث قد لا تعجب السلطات، فالانتقاد أو الاعتراض أو التعبير عن الرأي هي أشياء تجلب كل ما لا يحمد عقباه.

قاموس الخوف لدى المصريين لا ينتهي، ف "خلينا جنب الحيط" و"احنا مش قدهم" عبارتان لا يمكن النقاش فيهما عند الكثيرين والاعتراض عليهما هو مدخل للاجتناب من جانب الكثيرين كما ترى السخاوي، فزراعة الخوف في نفوس الناس جعل التفكير في الاستقلال وبناء الرأي شيء بعيد، فالجبن والسير بجوار الحيطان هو باب السلامة كما يعتقدون.

محاكمة مبارك

مبارك الذي يواجه القضاء اليوم في تهم قتل المتظاهرين وقضية قصور الرئاسة ويتم التغاضي عن جميع تهم الفساد الأخرى التي شهدتها سنوات حكمه الثلاثون في محاكمات مثار حول نزاهتها الكثير من الشكوك حيث ترى السخاوي أن هذه المحاكمة أشبه بالتمثيلية، فمبارك يتم تكريمه ويعامل بشكل خاص وهو الآن في المستشفى العسكري ولم يسجن، فما يحدث بمثابة تهدئة للمشهد ومن الممكن إلغاء تنفيذ الحكم في أى وقت، فالقضاء في أيدي السلطة السياسية كما تعتقد.

وعلى النقيض من وجهة النظر السابقة يرى البعض المحاكمة مكسبًا ورد اعتبار للثورة المصرية فالرميحي يقول إن الحكم الصادر رد الكرامة إلى جميع الداعمين للثورة برغم أن القضاء مسيس وأنه أقل بكثير مما يجب أن يصدر، فالحكم يرد على كل من كان يعتقد أن مبارك مظلوم وأنه لم يسرق.

مبارك خسر النهاية التي كان يحلم بها، فانكسار الهيبة والهزيمة المعنوية والتاريخية له هي نجاح يضاف إلى الطامحين إلى مستقبل أفضل لهذه البلاد

الإعلام المصري المنشغل بإنجازات النظام الحالي، لم يلتفت كثيرًا إلى هذه المحاكمات عمدًا فهو يقف في جانب الرئيس مبارك ولا يريد أن يصل الحكم للجمهور بشكل حقيقي كما يعتقد الرميحي في حين ترى السخاوي أن الإعلام يستخدم هذا الحدث ليدافع عن النظام الجديد بصفته محارب للفساد وداعم للثورة كما يروجون.

مبارك اليوم

على الرغم من كل ما ذكرناه سلفًا، فإن الأحداث التالية لفترة حكم مبارك جعلت الكثيرين يرون في أيام حكمه مزايا لم يكونوا يرونها من قبل وظهرت عبارات كثيرة تترحم على هذه الأيام مثل "ولا يوم من أيامك يا مبارك" ويرى الرميحي بأن من يترحمون على مبارك هم كبار السن حيث ينظرون للأمور بعقلية أمنية، فمصر لديهم مرتبطة بعبد الناصر والسادات ومبارك، في حين أن الشباب وهم القطاع الأكبر ناقمون على الأوضاع حيث يعتقدون أن مبارك هو السبب الرئيسي في وجود البطالة وتدهور العملية التعليمية وغياب فرص الزواج.

طيبة المصريين وربما سذاجتهم هي السلاح الذي يستخدمه كل من يوجه لهم خطابًا، حيث تروي لنا السخاوي أنها تسمع كثيرًا من يقول أنه يجب عدم تعريض مبارك للإهانة بوضعه في السجن فهو في النهاية كان رمزًا للدولة المصرية على مدار ثلاثين عامًا وهو كبير في السن ويعتبرون ذلك من باب الوفاء للعشرة وتضيف أن هذه العبارات تكرر ترديدها من جانب وسائل إعلامية.

بعد خمس سنوات من الثورة

لثورة الخامس والعشرين من يناير التي نحن في الذكرى الخامسة لها علاقة قوية بمبارك، فقد كان رحيله هو الهدف الأول للاعتصامات وبسببه غادر الشباب الميدان في الحادي عشر من فبراير على أمل حدوث تغيير كبير في حاضر هذه البلاد، فالثورة تكسب اليوم ويخسر مبارك حيث أن شريحة كبيرة من الشعب كما يرى الرميحي أصبحت تعتقد أن الثورة لها أسباب ومبررات حقيقية، فكل يوم تظهر حقائق جديدة تكشف مدى الظلم الذي وقع على المصريين والفساد الذي تعرضت له البلاد طيلة حكم مبارك أي أن مناصري الثورة في ازدياد.

وعلى الرغم من أن الشعب يسوء حاله يومًا بعد يوم وعلى الرغم من أن مبارك لم يحاكم في محاكم ثورية وأن ما خسره الشعب طيلة الثلاثين عامًا لن يعوضه شيء، إلا أن مبارك قد خسر النهاية التي يحلم بها، فانكسار الهيبة كما ترى أبو زيد والهزيمة المعنوية والتاريخية هي نجاح يضاف إلى الطامحين إلى مستقبل أفضل لهذه البلاد.

اقرأ/ي أيضًا:

مصر الانقلاب..كوكتيل المنع والفقد

مصر..ستنتصر الحياة للمشاغب