05-سبتمبر-2021

سينتهي عهد المستشارة أنجيلا ميركل خريف 2021 (Getty)

ألتراصوت- فريق الترجمة 

تعدّ المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل من أكثر قادة أوروبا والعالم تأثيرًا، وهي الوجه السياسي الأكثر حضورًا بين قيادات العالم على مدى أكثر من 15 عامًا، وهي الفترة التي أمضتها مستشارة لألمانيا لأربع ولايات انتخبت فيها ممثلة عن الاتحاد الديمقراطي المسيحي الألماني، الحزب الأكبر في البلاد. ففي عام 2018، في المؤتمر العام للحزب، أعلنت ميركل أنها لن ترشّح نفسها مجددًا لزعامة الحزب، مؤكّدة أيضًا أو ولايتها الحالية ستكون الرابعة والأخيرة، وأن لن تترشح لمنصب المستشارية في الانتخابات المزمعة في نهاية أيلول/سبتمبر 2021، ولن تسعى لشغل أي مناصب سياسية أخرى.

قادت أنجيلا ميركل (67 عامًا)، حزبها منذ العام 2000، وقادت بلادها منذ فوزها بمنصب المستشارة، كأول سيّدة تشغل هذا المنصب في تاريخ جمهورية ألمانيا الاتحادية

قادت أنجيلا ميركل (67 عامًا)، حزبها منذ العام 2000، وقادت بلادها منذ فوزها بمنصب المستشارة، كأول سيّدة تشغل هذا المنصب في تاريخ جمهورية ألمانيا الاتحادية، وبخروجها من المشهد السياسي، ستخسر ألمانيا زعيمة لطالما وُصفت بـ"الفذّة"، حتى من قبل خصومها، كما سيشكّل غيابها عن زعامة أكبر اقتصاد في القارة العجوز، قلقًا كبيرًا بالنسبة إلى وضع الاتحاد الأوروبي ومستقبله.

ستخسر ألمانيا زعيمة لطالما وُصفت بـ"الفذّة"، حتى من قبل خصومها (Axios)

ففي الوقت الذي عانت منه اقتصادات أوروبا، وحده الاقتصاد الألماني أبدى مرونة وحيوية وعالية، بمستويات بطالة منخفضة ونشاط تصنيعي واسع، ما جعل ألمانيا قوّة إقليمية لا يمكن تجاوزها، كما جعل ميركل تستحق لدى البعض لقب "مستشارة أوروبا". كل هذا النجاح والقدرة على التعافي والنهوض الاقتصادي وتجاوز الأزمات العالمية، ترافق مع الحفاظ على الطبقة الوسطى في ألمانيا، وتعزيز برامج الرفاه الاجتماعي للمواطنين، بخلاف ما تشهده بعض الدول المتقدمة الأخرى، ولاسيما الولايات المتحدة، التي تشهد مستويات غير مسبوقة من تزايد عدم المساواة بين الأغنياء والفقراء.

 "حلّالة المعضلات"

ارتبط اسم ميركل بسمعة الزعيمة القادرة على حفظ الاستقرار ودعم التقدّم وحلّ المشاكل، والشخصية الهادئة الرزينة التي تخطط للقرارات وتحسن تنفيذها بالاستفادة من شبكة علاقاتها الواسعة والمتينة في ألمانيا والعالم. وقد تعزّزت هذه السمعة لدى ميركل بالنظر إلى حجم التحديات التي خاضتها ونجحت في تجاوزها في مسيرتها السياسية الطويلة لزهاء 15 عامًا. من أبرز هذه الأزمات، الأزمة المالية العالمية عام 2008، وأزمة مديونية اليونان عام 2010، ثم النزاع في أوكرانيا والتدخل العسكري الروسي عام 2014، ومن بعدها وأثناءها أزمة اللاجئين، والتي أظهرت معدن القيادة النادر لدى ميركل، مثلما أظهرت ما يميّزها عن كثير من قادة أوروبا، والعالم. فحين قررت ميركل أن تفتح أبواب ألمانيا للاجئين القادمين من رومانيا في أيلول/سبتمبر 2015، رأى بعض القادة الأوروبيين في ذلك "استعراضًا للإنسانية" على حساب بقية دول الاتحاد، ما دفعها إلى اتخاذ إجراءات أكثر حسمًا ضد اللاجئين، بينما نظر آخرون إلى العوائد الاقتصادية والاجتماعية طويلة المدى التي ستجنيها ألمانيا بفضل استقبال تلك الأعداد الكبيرة من اللاجئين، مقارنة بدول أوروبية أخرى. لكن حتى داخل ألمانيا، فإن كثيرين من الألمان ما يزالون يجدون سياسة ميركل تجاه اللاجئين عصيّة على الفهم والاستيعاب، وهو ما تسبّب بخسائر فادحة للحزب الديمقراطي المسيحي الذي تنتمي إليه ميركل، وتراجع شعبيته بين الناخبين.

ورغم كلّ الخلافات الأوروبية مع ميركل، إلا أن المستشارة الصلبة قد غيّرت الكثير في الاتحاد. فهي السيدة الأولى التي تتزّعم هذا البلد الأوروبي الأكبر بعدد سكانه في القارّة، وكانت الوجه الأبرز بين قادة الاتحاد الأوروبي طيلة السنوات الماضية. لكن الاختلاف ليس في جنسها ولا مظهرها ولا ملامحها المحايدة، بل في أسلوبها الفريد في الحكم والإدارة وتحصيل التوافق، حيث نجحت في قيادة ألمانيا ذات قناعة بأهمية الاتحاد الأوروبي وتماسكه، وذلك بفضل سياسات ميركل المعزّزة لهذا الموقف في الداخل الألماني، بين الفرقاء السياسيين وفي أوساط القواعد الانتخابية الشعبية، بخلاف السياسات التي يتبعها قادة آخرون في الاتحاد الأوروبي، والتي يبدو أنها تسعى لتقويض الاتحاد الذي يشكّل الكتلة الاقتصادية الأكبر في العالم.

لكن تبقى بين ثنايا قائمة الإنجازات الطويلة في سجلّ ميركل، العديد من الانتقادات الجوهرية التي تتعلق بسياساتها الداخلية أو الخارجية، خصوصًا فيما يتعلق بالاتحاد الأوروبي، والعلاقة مع الولايات المتحدة، والصين، وروسيا، والتعامل مع اللاجئين، والتغيّر المناخي، وضبط تغول الشركات التقنية الكبرى متعددة الجنسيات، وهي ملفّات شائكة تفرض حضورها في الحملات الانتخابية والدعائية في ألمانيا، رغم أنّ قضية اللاجئين هي الأكثر استغلالًا في الآونة الأخيرة، مع صعود تيارات شعبوية متطرفة في ألمانيا، مثل حزب البديل من أجل ألمانيا، وعدد من الدول الأوروبية الأخرى. ومؤخرًا أزمة كوفيد-19، وسقوط الحكومة الأفغانية وعودة طالبان للحكم في أفغانستان. 

كريستينا بوراك، المحررة في "دويتشه فيله" ترى في مقال لها أن العديد من التحركات التي اتخذتها ميركل، سواء ما تعلق بأزمة اليونان أو أوكرانيا أو حتى أزمة اللاجئين، هي تحركات "اللحظة الأخيرة"، تمثّل محاولة لمعالجة أزمة بدل استباق حدوثها، أو كخيارات أخيرة لتجنب سيناريوهات أسوأ. وبحسب بوراك، فإن سياسة "الأبواب المفتوحة" التي انتهجتها ميركل مع اللاجئين السوريين الباحثين عن مأمن في أوروبا، لم تكن تحركًا يتسم بالمبادرة وصنع الأحداث، بل جاء بعد فشل الاتفاق داخل الاتحاد الأوروبي على نظام مشترك للتعامل مع اللاجئين وتوزيعهم داخل القارة، وهو ما دفع بدول أوروبية، مثل هنغاريا، إلى السماح لعشرات الآلاف من اللاجئين للعبور إلى ألمانيا عبر حدودها الجنوبية. وقد ينطبق ذلك أيضًا على طريقة تعامل ميركل مع أزمة المناخ، والعلاقة مع الصين وروسيا، والتي اتسمت بالتعامل مع الأزمات واحتوائها، دون المبادرة إلى صنع المواقف وتحديد الأجندات، بحسب تعبير الصحفية الألمانية، كونستانزا ستيلزينمولر، وهي منهجية قد لا تكون كافية لإدارة التحديات التي ستواجه ألمانيا خلال العقدين المقبلين.

من سيخلف ميركل؟

يجري السباق حاليًا على زعامة ألمانيا بعد انتهاء ولاية ميركل الأخيرة، بين كلّ من أولاف تشولتز، زعيم حزب الديمقراطيين الاشتراكيين، وآرمين لاشيت، الذي سيخلف ميركل في زعامة الحزب المسيحي الديمقراطي. كلا الرجلين يمثّلان امتدادًا لزعامة ميركل بطريقة أو بأخرى، إلا أنّ الألمان قد يرون في تشولز التكنوقراطي خلفًا أكثر إقناعًا لألمانيا مقارنة بآرمين لاشيت، الذي يعاني من تراجع كبير في شعبيته مؤخرًا في استطلاعات الرأي المحلية، حيث نال في آخر استطلاع 10% فقط عند سؤال الناخبين عن المرشّح الأعلى حظًا لنيل منصب المستشارية، مقارنة بنسبة 31% لصالح تشولز.

اقرأ/ي أيضًا: أرمين لاشيت.. من هو خليفة ميركل المحتمل لمنصب المستشارية؟

وبحسب موقع أكسيوس الأمريكي، فإن العديد من الألمان يبدون تخوفات من المرحلة التالية لعهد ميركل المستقرّ رغم طوله وتعدد أزماته، فهي الزعيمة الأعلى شعبية على الإطلاق في ألمانيا، كيف لا وهي المعروفة في بعض الأوساط الألمانية بلقب "موتّي"، أو "ماما ميركل"، وهو ما يشي بالدور الذي التصق بها كقائدة وطنية طوال الفترة الماضية. ويعود تخوّف الألمان من انسحاب ميركل من المشهد السياسي من كونها شخصية نادرة في خبرتها وعلاقاتها وحجم التوافق الشعبي على حكمها، والذي بدا واضحًا في الدعم الذي استطاعت دومًا حشده وراء قراراتها الأكثر جدلًا في فترات ولايتها الأربعة.

وهذا يعني، بحسب أكسيوس، أنه وبغض النظر عن هوية الزعيم المقبل للجمهورية الألمانية، فإنه لن يحظى بالمكانة نفسها التي كانت لميركل، سواء داخليًا أو على الساحة الدولية. لكن المحررة في "دويتشه فيله"، كريستينا بوراك، ترى أن أي قائد يخلف ميركل، سيتعيّن عليه أن يتمتع بالقدرة على المبادرة وامتلاك الرؤية، في حال كان جادًا في التعاطي الفعال مع أزمات ألمانيا والاتحاد الأوروبي الحالية أو المقبلة، وهذا يلزم أن لا يكون مجرّد عضو في الفريق الأوروبي، بل أن يمتلك القدرة على قيادته وفرض أجنداته، بالنظر إلى الزخم الذي تمتلكه ألمانيا أوروبيًا، والذي يجعلها الدولة المفضّلة للانتقال للعمل إليها داخل الاتحاد.

ترى بوراك أن نهجًا جديدًا أكثر قدرة على القيادة والمبادرة، سيكون ضروريًا لإدارة أزمة اللاجئين على نحو إنساني وأخلاقي في ألمانيا وأوروبا

وترى بوراك أن نهجًا جديدًا أكثر قدرة على القيادة والمبادرة، سيكون ضروريًا لإدارة أزمة اللاجئين على نحو إنساني وأخلاقي، كما سيكون ضروريًا لإدارة ملفات أخرى من شأنها أن تثبت قدرة ألمانيا على القيادة على الصعيد الأوروبي والعالمي، في مقدمتها إدارة الخلافات التي تعصف حاليًا بمستقبل الاتحاد الأوروبي، إضافة إلى أزمة التغير المناخي، والعلاقات مع الدول الكبرى خارج الاتحاد، وفي مقدمتها روسيا والصين.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

زيارة ميركل لموسكو وكييف ومشروع "نورد ستريم 2".. ما علاقة أفغانستان؟

أرمين لاشيت.. من هو خليفة ميركل المحتمل لمنصب المستشارية؟