06-يوليو-2023
ماكينات المحتوى

التهمت وسائل التواصل خيال جيل بأكمله (Getty)

هذا المقال مترجم عن الأصل المنشور في النيويوركر. 


في البدء كانت البيضة.

في كانون الثاني/يناير من عام 2019، نشر حساب على إنستاغرام يُدعى "@world_record_egg" صورةً لبيضة دجاج بنية اللون، وأطلق حملةً لحصول تلك البيضة على أكبر عدد من الإعجابات أكثر من أي صورة على الإنترنت من قبل. كان الرقم القياسي لعدد الإعجابات على إنستاغرام حينها من نصيب ابنة كايلي جينر، ستورمي، والتي كانت قد نالت أكثر من ثمانية عشر مليون إعجاب، ولكن في غضون عشرة أيام، تجاوزت إعجابات البيضة أكثر من ثلاثين مليونًا. ولا تزال من أكثر الصور إعجابًا حتى يومنا هذا، برصيد أكثر من خمسة وخمسين مليون إعجاب. ولاحقًا، تعاون منشئو الحساب، الذين كانوا يعملون في قطاع الإعلانات، مع شبكة "Hulu" للبث الرقمي لإنتاج حملة توعية عامة بالصحة العقلية، وفيها "تصدّعت" البيضة بسبب ضغوط مواقع التواصل الاجتماعي. قصة البيضة تعد مثالُا على أحد أنواع  النجاح المعاصر على الإنترنت، ألا وهو أنه كل ما عليك فعله هو جمع جمهور كبير بالقدر الكافي حول شيء ما - أي شيء - وسيمكنك بيعه لشخص ما.

بالنسبة لكيت إيكهورن، مؤرخة وسائل الإعلام والأستاذة في جامعة "نيو سكول" في نيويورك، فإن بيضة إنستاغرام تمثل ما نسميه "المحتوى"، وهي كلمة أصبحت منتشرة في كل مكان ولكنها صعبة التحديد. فالمحتوى هو مواد رقمية "قد يتم تداولها لغرض التداول فقط"، كما كتبت إيكهورن في كتابها الجديد "المحتوى" (Content)، وهو جزء من سلسلة الدراسات البليغة الصادرة عن معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا باسم سلسلة "المعرفة الأساسية".

بعبارة أخرى، فإن هذا النوع من المحتوى المائع في جوهره،وهو الأقدر على الانتشار عبر المساحات الرقمية. "فنوع المحتوى وبيئته وشكله هي قضايا ثانوية، وفي بعض الحالات، يبدو أنها تختفي تمامًا". إذ إن شكلًا واحدًا من المحتوى المُبتكر المحمي بحقوق ملكية فكرية فريدة، يكفي ليكون مصدرًا لتغذية موجة البودكاست والأفلام الوثائقية والمسلسلات القصيرة.

إن هذا النوع من المحتوى المائع في جوهره،وهو الأقدر على الانتشار عبر المساحات الرقمية. "فنوع المحتوى وبيئته وشكله هي قضايا ثانوية، وفي بعض الحالات، يبدو أنها تختفي تمامًا".

كما أصبح من الممكن تشغيل حلقات المسلسلات على التلفاز بشكلٍ فردي كما تشغيل الفيلم، وأصبحت لوحات الفنانين تظهر على وسائل التواصل الاجتماعي جنبًا إلى جنب مع صور العُطلات التي ينشرها "المؤثرون". وكل ذلك جزء مما تسميه إيكهورن بـ "صناعة المحتوى"، والتي نمت لتشمل تقريبًا كل ما نستهلكه عبر الإنترنت. كتبت إيكهورن، مستحضرةً التدفق الهائل للنصوص والصوت ومقاطع الفيديو الذي يملأ الصفحات الرئيسية لدينا، "إن المحتوى جزء من تدفق فردي لا يمكن تمييزه".

طوال العقد الماضي، حاولت عدد من الكتب تقييم كيفية تأثير الإنترنت علينا، وما يجب أن نفعله حيال ذلك. أظهر كتاب "فقاعة الفلتر" (The Filter Bubble) للكاتب إيلاي باريزر (2011)، في وقت مبكر، التأثيرات المتجانسة للتغذية الرقمية. وبعد أن أصبح فيسبوك وأمثاله أكثر انتشارًا، كتب الخبير التقني الرائد جارون لانير كتابًا بعنوان "عشر حجج لحذف حساباتك على وسائل التواصل الاجتماعي الآن" (Ten Arguments for Deleting Your Social Media Accounts Right Now) عام 2018. كما قدّم كتاب شوشانا زوبوف، "عصر رأسمالية المراقبة" (Age of Surveillance Capitalism)، الذي نُشر في الولايات المتحدة في عام 2019، رسمًا بيانيًا للمشاكل البنيوية للاستهلاك الجماعي للبيانات. ويعد كتاب إيكهورن واحدًا من مجموعة جديدة من الكتب التي تركز اهتمامها على تجربة المستخدم بشكل مباشر أكثر، وتشخيص العلاقة الآخذه بالاختلال بين الفرد والجموع الافتراضية.

منت

ذات مرة، كان الإنترنت يعتمد على المحتوى الذي يُنشئه المستخدم، وكان المأمول هو أن يستفيد الأشخاص العاديون من التسهيلات التي وفرتها الشبكة لنشر أشياءً رائعة، مدفوعة ببساطة بمتعة التواصل المفتوح. لكننا نعلم الآن أن الأمور لم تسرِ على هذا النحو، إذ أفسحت صفحات أو مدونات GeoCities (خدمة استضافة طوّرتها شركة "ياهوو" سمحت للمستخدمين بتطوير المواقع ونشرها مجانًا) التي أنشأها المستخدمون الطريق للمحتوى المدر للأرباح. 

سهّل جوجل البحث عبر الإنترنت، ولكن في أوائل القرن الحالي، بدأ أيضًا ببيع الإعلانات وسمح لمواقع الشبكة الأخرى بدمج نماذجها الإعلانية بسهولة. ولا يزال نموذج العمل هذا هو ما يعتمد عليه معظم الإنترنت اليوم، إذ إن الإيرادات لا تأتي بالضرورة من قيمة المحتوى نفسه، بل من قدرته على جذب الانتباه، ومن جذب الأنظار إلى الإعلانات التي غالبًا ما تُشترى وتباع من خلال شركات مثل جوجل وفيسبوك. 

أدى ظهور الشبكات الاجتماعية مطلع العقد الماضي لم ينتج عنه إلا جعل نموذج الأعمال هذا أكثر هيمنة، إذ أصبحت منشوراتنا الرقمية مُركّزة أكثر على عدد قليل من المنصات الشاملة لكافة أنواع المحتوى، التي اعتمدت بشكل متزايد على الخوارزميات، وتمثلت نتيجة ذلك بالنسبة للمستخدمين في زيادة اطلاعهم على المحتوى ولكن مع فقدان ملكيته، فقد أصبحنا ننتج المحتوى مجانًا ليجمعه فيسبوك بعد ذلك بهدف الحصول على الربح.

لطالما كان مصطلح "Clickbait" يشير إلى المقالات السطحية المضللة عبر الإنترنت، والتي تنشر لبيع الإعلانات وحسب. ولكن على الإنترنت اليوم، يمكن أن يصف ذلك المصطلح المحتوى في مختلف المجالات، من الإعلانات غير المباشرة على صفحة إنستاغرام الخاصة بموثر ما، إلى موسيقى البوب المصممة للتلاعب بخوارزمية سبوتيفاي.

تستخدم إيكهورن مصطلح "رأس مال المحتوى" - المشتق من مصطلح "رأس المال الثقافي" لبيير بورديو - لوصف الطريقة التي يمكن أن تحدد بها سهولة النشر عبر الإنترنت نجاح، أو حتى وجود، عمل فنانٍ ما.

تستخدم إيكهورن مصطلح "رأس مال المحتوى" - المشتق من مصطلح "رأس المال الثقافي" لبيير بورديو - لوصف الطريقة التي يمكن أن تحدد بها سهولة النشر عبر الإنترنت نجاح، أو حتى وجود، عمل فنانٍ ما. وكما يصف "رأس المال الثقافي" كيف تمنح الأذواق وبعض المعايير مكانة معينة، فإن "رأس المال المحتوى" يشير ضمنيًا إلى القدرة على إنشاء محتوى ثانوي من النوع الذي يتغذى عليه الإنترنت.

ونظرًا لأن قدرًا كبيرًا من انتباه الجمهور يتم توجيهه عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فإن المسار الأكثر مباشرة للنجاح هو تنمية عدد كبير من المتابعين الرقميين. تكتب إيكهورن: "يجب على المنتجين الثقافيين الذين ربما ركزوا في الماضي على كتابة الكتب أو إنتاج الأفلام أو صناعة الفن أن يقضوا اليوم وقتًا طويلاً في إنتاج (أو دفع الأموال لشخص آخر لإنتاج) محتوى عن أنفسهم وأعمالهم". فنجوم البوب أصبحوا يوثّقون روتينهم اليومي على تيك توك، والصحفيون ينشرون آراء عادية جدًا على تويتر، حتى إن "شاعرة الإنستاغرام" ذات الكتب الأكثر مبيعًا، روبي كاور، تنشر صورًا ومقاطع قصيرة من قصائدها. والجميع محاصرون بالضغط اليومي لإنتاج محتوى إضافي - على شكل ميمز، أو صور سيلفي، أو منشورات ساخرة - لملء فراغٍ لا نهاية له.

لعل الديناميكيات التي تصفها إيكهورن مألوفة لأي شخص يستخدم وسائل التواصل الاجتماعي بانتظام، إذ إنها لا تضع حجر الأساس في فهمنا للإنترنت بقدر ما توضح، بعبارات صريحة بليغة، كيف أنتجت تلك الديناميكيات سباقًا محمومًا نحو القاع. فنحن نعلم أن ما ننشره ونستهلكه على وسائل التواصل الاجتماعي يزداد فراغًا من المضمون يومًا بعد يوم، ومع ذلك فنحن عاجزون عن إيقافه. ولكن ربما إن أحسنّا توصيف، فسيكون من الأسهل حلها. كتبت إيكهورن: "المحتوى يولّد المحتوى"، وكما هو الحال مع بيضة إنستاغرام، فإن أفضل طريقة لمُراكمة المزيد من رصيد المحتوى هي حيازته في المقام الأول.

;lkjhg

لا تقدم إيكهورن رؤية واضحة للمستقبل في هذا السياق، لكنها تشير بإيجاز إلى فكرة "مقاومي المحتوى"، الذين قد يستهلكون الموسيقى عبر أقراص الفاينيل بدلًا من سبوتيفاي وألبومات الصور المطبوعة بدلًا من إنستاغرام، لكن حلولًا كهذه تبدو غريبة بالنظر إلى الدرجة التي أصبح فيها الإنترنت جزءًا لا يتجزأ من حياتنا وتجاربنا اليومية، وهو مثل العديد من التقنيات التي ظهرت من قبل، يبدو أنه باقٍ، ولكن السؤال لا يكمن في كيفية الهروب منه، بل في كيفية فهم أنفسنا في ظله الذي لا مفر منه.

في كتابه الجديد، "الإنترنت ليس ما تعتقده" (The Internet Is Not What You Think It Is)، يجادل جاستن إي إتش سميث، أستاذ الفلسفة في جامعة باريس سيتي، بأن "الوضع الحالي لا يمكن التسامح معه، ولكن لا مجال للعودة إلى الوراء أيضًا." ويضيف سميث أن الكثير من الخبرات والتجارب البشرية المتفاوتة غدت متساوية في "بوابة تكنولوجية" واحدة. "وكلما زاد استخدامك للإنترنت، تحول تفردك إلى علامة تجارية، وتحولت ذاتيتك (كما في المصطلحات الرياضية) إلى شعاع من النشاطات يمكن توجيهه عبر الخوارزميات"، بحسب سميث.

وفقًا لسميث، فإن الإنترنت في الواقع يحدّ من الانتباه، بمعنى أنه يعمل بمثابة تجربة جمالية عميقة تغير من يخوضها. إن نموذج الأعمال الخاص بالإعلان الرقمي لا يحفز إلا التفاعلات السطحية والمختصرة، إذ إن انتباه المستهلك يمكن أن يحوزه شعار ما أو اسم لعلامة تجارية فقط لا أكثر من ذلك. وقد صُممت صفحات المحتوى الخاصة بحساباتنا "لحث المتلقي المحتمل على الانتقال من شيء مدر للأرباح إلى آخر"، كما يقول سميث. وقد كان لهذا تأثير قاتل على جميع أنواع الثقافة، من أفلام مارفل الضخمة التي تعمل على شد الانتباه دقيقة بدقيقة، إلى توصيات سبوتيفاي الآلية التي تعرض أغنية مماثلة تلو الأخرى. إذ أصبحت المنتجات الثقافية وعادات المستهلك على حد سواء متوافقة بشكل متزايد مع بنية المساحات الرقمية.

يبدأ كتاب "الإنترنت ليس ما تعتقده" نقدًا سلبيًا للحياة على الإنترنت، لا سيما من منظور الأوساط الأكاديمية، أي بوصفه صناعة تعد الحياة واحدة من أكبر ضحاياه. لكن النصف الثاني من الكتاب يواصل حتى يناقش أسئلة فلسفية أعمق. إذ يكتب سميث أنه بدلًا من النظر إلى الإنترنت على أنه أداة، لعله من الأفضل أن ننظر إليه على أنه "نظام حي"، فهو بمثابة تجسيد لسعي البشر منذ قرون نحو الترابط، وذلك رغم ما ثبت عن أن هذا الشكل من الترابط مخيب للآمال.

وفقًا لسميث، فإن الإنترنت  يحدّ من الانتباه، بمعنى أنه يعمل بمثابة تجربة جمالية عميقة تغير من يخوضها، فنموذج الأعمال الخاص بالإعلان الرقمي لا يحفز إلا التفاعلات السطحية والمختصرة.

يروي سميث قصة الفرنسي جول أليكس، الذي قدّم في منتصف القرن التاسع عشر نوعًا من الإنترنت العضوي المصنوع من الحلزون. إذ إنه، ربما بالاعتماد على نظرية الطبيب فرانز ميزمر عن "الجاذبية عند الحيوانات"، والتي افترضت وجود قوة مغناطيسية عالمية تربط الكائنات الحية، استند إلى فكرة أن أي حلزونين قد تزاوجا يبقيان مرتبطين مهما باعدتهما المسافات. فشلت حينها تكنولوجيا، كانت على شكل جهاز يشبه التلغراف يستخدم الحلزونات لإرسال الرسائل، لكن حلم الاتصال اللاسلكي الفوري ظلّ باقيًا إلى أن حققته البشرية، وربما كان ذلك على حسابنا.

يبحث سميث في كتابه عن الاستعارة الأكثر فعالية للإسقاط على الإنترنت، ويسعى لتقديم مفهوم يشمل ما هو أكثر من فراغ "المحتوى" وإدمان "اقتصاد جذب الانتباه". هل الإنترنت أشبه بتلغراف الحلزونات المتزاوجة؟ أم أنه مثل جهاز العجلة الذي شاع في عصر النهضة والذي سمح للقراء بتصفح كتب متعددة في آنٍ واحد؟ أو ربما مثل النول الذي ينسج الأرواح معًا؟ لا يرسو سميث تمامًا على إجابة، لكنه يخلص إلى إدراك أن واجهة الإنترنت، ولوحة المفاتيح التي تتيح له الوصول إليها، ليست جهازًا خارجيًا بقدر ما هي امتداد لعقله البحثي. ولفهم الذات المتشابكة، يجب علينا أولًا أن نفهم الذات المجردة، وهذا مسعى لا يتوقف.

قد لا تنبع المشكلة النهائية للإنترنت من التكنولوجيا المستقلة التي يقوم عليها، بل من الطريقة الفرانكشتاينية التي تجاوز فيها هذا الاختراع البشري قدراتنا الخاصة. وبطريقةٍ ما، يمكن القول إن بيضة إنستغرام لم تفقس بالكامل بعد.