هذا العمل الفني- الحرفي جزء من ديكور مطعم شهير للوجبات السريعة في واشنطن العاصمة. زبائن مطعم كهذا المطعم هم غالبًا مستعجلون، يريدون إنهاء وجبتهم والعودة إلى شؤونهم بأسرع ما يمكن. الأرجح أنهم لا يقيمون وزنًا لما يسكن على جدران المكان. ببساطة، هم يريدون مكانًا غير منفّر، وديكورًا بسيطًا، لئلا يشغلهم أي شيء عما جاؤوا لأجل إنجازه. مع ذلك فإن شركة المطاعم هذه شاءت أن تضمّ صالاتها أعمالًا فنية، أو شبه فنية. على هذا لا مفر من التساؤل: لمن يتوجه هذا النصب القائم على هذا الجدار؟ وأي رسالة يريد أصحاب المطعم إيصالها؟ العمال بطبيعة الحال مشغولون بتلبية الطلبات حتى الإنهاك. ومالكو هذا الفرع من سلسلة المطاعم الشهيرة لا يتواجدون في المكان. قد يكون بعضهم مكسيكيًا محبًا للفنون وعاشقًا لأعمال دييغو ريفيرا وفريدا كاهلو، لكنه لا يمتع ناظريه بهذا العمل.
زبائن مطاعم الوجبات السريعة يريدون مكانًا غير منفّر، وديكورًا بسيطًا، لئلا يشغلهم أي شيء عما جاؤوا لأجل إنجازه
المقارنة بين أعمال كاهلو وريفيرا وهذا العمل جائرة طبعًا. إنما ورغم جورها لا تخفف من حدة السؤال وإلحاحه. حسنًا، فريدا كاهلو في كل بيت. أنا شخصيًا رسمت وجهها على الخشب وعلقته في غرفة المعيشة. ما أنجزته ليس عملًا فنيًا بالمعنى الذي أحسن تعريفه للفن. إنه في خلاصة الأمر يشبه بطاقة انتماء. كان في وسعي لو كنت متابعًا لدوري كرة السلة أن أضع صورة جيمس ليبرون في الصالة، أو أرسم صورة لمايكل جوردان. لماذا اخترت كاهلو؟ لأنني ببساطة أعرفها. هي أليفة بالنسبة لي ولا مجال لمقارنة ألفتها ببرية مايكل جوردان.
اقرأ/ي أيضًا: فريدا كالو: ولدتُ لأكون حوض زهور
لوحة المطعم أو منحوتته لا توحي بهذه الألفة. لأنها أولًا عمل أصلي، ولأنها ثانيًا فن مرمي في الهواء. بمعنى أن منجز هذه القطعة الفنية قد يكون في حقيقة الأمر فنانًا موهوبًا، لكنه ما زال يعمل نجارًا بالأجرة. وقد يكون ما صنعه على هذا الحائط جزءًا من تخيله للعالم والمحيط الذي يعيش فيه ويتذكره. مع ذلك هي لوحة لا يمكن نسخها لتصبح أليفة. وحتى لو تجرأ أحدهم على نسخها، فليس بوسعه إلا الادعاء بأنها من بنات خياله، هي ليست تخطيط لوجه مارلين مونرو أو فستانها الذي تتطاير أطرافه في الهواء، والمعنى أنها لا تملك ملمحًا مشتركًا مع آخرين حتى لو كانوا قلة قليلة. هذا مخلوق وحيد وفريد، فرادته تتأتى من نقصانه أصلًا. هل كان في وسع الفنان- الحرفي أن يجعل عين الشخص المصور في القطعة أصغر؟ طبعًا. وسيكون من شأن هذا التعديل الطفيف أن ينشئ كائنًا -فنيًا جديدًا وفريدًا وناقصًا على نحو متلازم.
إلى الآن لم تكفّ هذه المقالة عن إثارة الأسئلة. وهي أسئلة تكاد تكون مستعصية على الإجابات. لكن ما تعتزم هذه الأسئلة الإشارة إليه ليس أقل من معضلة الفنون اليوم.
لنحاول طرح أسئلة جديدة: ماذا لو أن مكتشف مواهب تشكيلية قرر أن ينشئ معرضًا لهذا الحرفي؟ سيصبح هذا الحرفي، بقوة الإعلان ومتانة العلاقات العامة فنانًا شهيرًا، وسيخسر صفته كنجار. في هذه الحال ستصبح هذه القطعة عملًا فنيًا أصيلًا.
ماذا لو قرر هذا النجار أن ينحت ويرسم ويجمع قطعًا كثيرة تمت بصلة لهذه القطعة، وأن ينشرها في كل مكان يسمح له بنشره فيه؟ في هذه الحال سيكون فنانًا على قائمة الانتظار. لكن انتظاره لا يقلل من حدة موهبته.
بقوة الإعلان ومتانة العلاقات العامة سيصبح الحرفي فنانًا شهيرًا، وسيخسر صفته كنجار. في هذه الحال ستصبح منجاته قطعًا فنية
ماذا لو أن صانع هذه القطعة هو فنان كبير، وأراد من عرضها في مطعم وجبات سريعة مراقبة ردود الفعل، واكتشاف الذائقة الفنية لجمهور الجائعين؟ يجدر بالفنان في هذه الحال أن يراقب مليًا ردود فعل هؤلاء. وأن يجمع، في ما بعد، ردود الفعل ويعلنها على الملأ. في هذه الحال، يتحول العمل إلى أيقونة ثقافية.
اقرأ/ي أيضًا: شتيمة دوشامب
حسنًا. لقد لفتت هذه القطعة انتباهي رغم أنني كنت جائعًا. وها أنا الآن أتبناها كما لو كانت من صنعي. بكلام آخر. هذه القطعة لم تكن لتكون شيئًا أبعد من طلاء جدار باللون الأبيض لولا أنني كتبت عنها. وفي هذه الحال فقط، قد تنجح في الانتماء إلى عالم الفنون. يبقى أنها مجهولة المصدر. وعليه يمكنني الادعاء بكل راحة ضمير أنني من صنعها وعلقها على ذلك الجدار.
اقرأ/ي أيضًا: