10-ديسمبر-2021

الفنان مارسيل دوشامب

عندما جاء دوشامب بالمبولة، آنذاك اكتشف عالم الدمار شكلَ جمجمته.

  • دالن سالزمان

 

لكل زمن ثقافي شتائمه المبتكرة والبديلة، ودوشامب هو اللّسان الفكري المؤسس لشتائم ما بعد الحداثة، أو ما يمكن تسميته بفجر الشتيمة الثقافية، فمعه تمكن العقل الفني من مغادرة كآبة السائد والنزول إلى شواطئ المرح الداعر.

تبنى دوشامب إيقاع الفراغ في توكيد شعرية القذارة من خلال استقدام الاشياء المنبوذة، وزجها في تنافس مع المقدس الفني المتمثل في أعمال كبار فناني عصره

إنَّ الحديث عن معجزة المبولة هو في الأساس حديث عن مراحل تطور الفكر الإنساني، حيث الفن هو طعام الفراغ بحسب موريس بلانشو، ولا يؤسس الفراغ إلّا بتوافر فكر حادّ يضاعف من طاقته في مزاحمة تخمة الفراغ، بمعنى أن ينغمس اهتمام الفنان على تبني القطيعة المريحة، كما حدث مع سيزان ورامبرانت بأخرى بديلة، وهذه ثقافة الرّد على امتلاء الفراغ بفراغات مضادة وليست فراغات فحسب.

اقرأ/ي أيضًا: نُزهة في جمجمة آرتو

يمكن عدُّ المبولة أنموذجًا مؤسسًا لثقافة الفراغ المضاد، وبخلاف ما اعتمد السورياليون على  شتيمة حلمية للخيال، تبنى دوشامب إيقاع الفراغ في توكيد شعرية القذارة من خلال استقدام الاشياء المنبوذة، وزجها في تنافس مع المقدس الفني المتمثل في أعمال كبار فناني عصره، ذاهبًا بذلك نحو اجتراح سوريالية دوشامبية قائمة على ضرورة البذاءة المخيالية، وما المبولة إلّا إعلان صريح على رؤية دوشامب للقيمة الفنية، لكونه يرى أنَّ الحضور الفعلي للفنان يكمن في الإيجاد الضمني للزمن، ومهمته أن يعبث في الوجه الفني للمرحلة أو العصر، وهذه مزية الارتكاز على الإيقاع الفراغي للتجربة الذي هو فعل دادي، وكان لفرانك ويدكايند تأثير استغواري في حياة دوشامب وفكره، ويذكر أن لفرانك أعمال مسرحية صادمة، فكان يتبول ويمارس العادة السرية على خشبة المسرح بحسب جانيس مينيك، ويبدو أن مخترع المبولة قد امتص رغوة الجنون الفكري من مشارب عديدة ومنها اهتمامه بفيزياء الفعل، مجسدًا إياها في لوحة عارية تنزل السلم، ومن خلال ذلك أنتج الكثير من الأعمال الهامة، وتأتي المبولة لحظة انقلاب فكري في المنظومة البصرية المعنية بمغادرة عالم الصباغة، والدخول في مديات الشيء الجاهز، المؤسس لقيمة الفراغ المضاد، ذلك لأن التصوير الزيتي من وجهة نظره أصبح تاريخًا مجردًا، بهذا يكون دوشامب قد جاهر بذبح الخنزير الإستاطيقي وسلخه أمام مرأى الكون الفني، وهذا متأت من رغبة جامحة في الاحتفاء بالجنون الدوشامبي، ومحاولاته الدائمة في الاعتداء على المخيال بوصفه متنًا فكريًا، والعمل على صعود العابر الزمني أي الأشياء اليومية من طاولة، كرسي، الذي سوف يمنح التجربة الاحتفاء بإيقاع المحاولة، وبذا يكون الفن عدوًا في جمجمة الفراغ الكوني.

المبولة 1017، العمل الشهير  لمارسيل دوشامب

إن ما يميز شتيمة دوشامب أنه منذ دخوله المبكر في عالم الفن سارع إلى تطعيم خياله بالانقلاب على تراث الأسلاف، ذلك لأن تلقيح الجنون الفني هو علاج فعال ضد مرض جدري التفاهة الدنيوية ويتوافق رأي بالمر هذا ومحاولات الفراغ في تأكيد زمنه، وأولى شتائمه كانت في إضافته شاربًا للوحة الموناليزا الشهيرة، معضدًا بذلك شتيمة صديقه فرانسيس بيكابيا عندما رسم بورتريها لسيزان على هيأة قرد محنط.

إذًا الدوشامبية هي فعل فني لا مرجعيات له سوى زمن الحركة أو الأداء، وهذا ملمح دادي لكنه غير مُعرّف

إذًا الدوشامبية هي فعل فني لا مرجعيات له سوى زمن الحركة أو الأداء، وهذا ملمح دادي لكنه غير مُعرّف، من هذا نفهم أن دوشامب ينتمي إلى الدادية أكثر منها للسوريالية، لأنه رسّخ من ارتكازه على الفعل الفني، لهذا جاءت شتيمته متفردة ومحتفى بها من قبل كبار الفلسفة والفكر، وفي هذا المقام يذكر الناقد إيهاب حسن بأن مع المبولة بدأ الفكر الإنساني عهدًا جديدًا، وتنامى الإحساس بعدمية الزمن حيث الاحتفاء بالظل الإنساني بوصفه مخلفات حربية لا وجود لها إلّا في ذاكرة الفراغ التي هي العدم.

اقرأ/ي أيضًا: قذارة، قمامة، نفايات، أدب!

كلما تجذرت فكرة العدم في وجود الفنان أصبح الفن هو الوعي بالفراغ، ويتحول عمل الفنان من منتج جمالي إلى طبّاخ مفاهيم ورؤى، وهنا يعلن الدخول في الكهف الفلسفي، بذا يمكننا عدّ المبولة شتيمة فلسفية وليست عملًا فنيًا عابرًا، كذلك هي نبوءة سبقت نظريات ليوتار وكتيبته المابعد حداثية، فبعد رسوخها في دماغ الفكر المعاصر وتداولها نظريًا، يحق لنا القول إن المبولة خلقت استاطيقيتها الخاصة، فلا فن من دون تحرر من سلطة التراث المخيالي، وقيمة الوعي بالفراغ تكمن في بلوغ الفنان عمق فراغه الروحي من خلال اشتباكه وأزمات عصره من حروب وأوبئة، وإن ما ميَّز الشتيمة الدوشامبية عن شتائم مجايليه من السورياليين أنها غادرت القصدية في تعاملها مع الفن، فمن وجهة نظره أن الخلود الفني يكمن في التخريب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الرسم والكتابة في تجربة أفونسو كروش

اعتراف إلى "مصور الظلال"