18-أكتوبر-2015

البحر أفضل الأصدقاء (باتريك باز/أ.ف.ب/Getty)

تُحكم سارة شالها الملوّن حول رقبتها اتقاء هواء تشرين قرابة البحر. ترفع شعرها الأملس من تحت الشال وتحرره على كتفيها. تختار مقعدًا بعيدًا عن الناس وتجففه بمحرمة بيضاء بعد ليلة ماطرة. الساعة شارفت على السابعة صباحًا، تقول إنها تعشق البحر وخصوصًا في الصباح، تشعر أن فيه سرًّا حين تقصده في هذا الوقت، يُسرّح جسدها ويبعث فيه طاقة تمشي بها الكورنيش يوميًا لمدة ساعة،  قبل ذهابها إلى الجامعة. تُحاول تخليص جملها من لهاثها بعدما كانت تركض قبل أن تجلس وتستريح قليلًا. لا تحبّ سارة أن تقصد الكورنيش مع أحد، "البحر يكفي لكي يكون رفيقًا وهو لا يحتاج إلى صوت مرافق فوقه"، تقول. هذه الساعة الصباحية مقدسة بالنسبة إليها، اعتادت المشي منذ ثلاث سنوات حين كانت تتقصد ذلك في البداية كرياضة تُخفف من ثقل الدهون المتراكمة في جسدها، لكنها أدمنت النزول دوريًا لأنها ساعدتها على دثر أحزانها. 

يقصد أبو أيمن الكورنيش منذ ثلاثين عامًا وينزل مع تشقق الضوء في السماء

على المقعد المحاذي، يجلس رجل ستيني ويُقلّب بين الإذاعات على الراديو الصغير في يده. يُقرّبه إلى أذنه حتى يسمع جيدًا، ويستقرّ على إذاعة تبثّ الأخبار. يُعلّق على أوضاع البلد غاضبًا "هؤلاء السياسيون لو بلّطوا لنا البحر لن يُكفّروا عن ظلمهم للشعب، حرام عليهم، يكبّدون شبابنا عناء البحث عن حياة كريمة وهم بيدهم مساعدتهم لكنهم معرضون عن ذلك من أجل مصالحهم". يقصد أبو أيمن الكورنيش منذ ثلاثين عامًا، ينزل مع تشقق الضوء في السماء، ويبقى حتى التاسعة صباحًا. هو شاهد حيّ على خيبات ناس المدينة وألقهم. يُراقب المشاة على الرصيف وثنائيات الغرام والشباب وكبار السنّ. يستمع إلى القصص العابرة ويسجلها في رأسه كمدوّن لمذكرات المدينة. يقصد أبو أيمن الكورنيش بمفرده في غالب الأوقات، ترافقه أحيانًا زوجته إذا لم تكن متعبة. "خَتيرت قبلي أم أيمن"، يضحك.

صار البحر رفيقه الدائم منذ غادر وظيفته منذ سنتين بعد سنّ التقاعد. يكره الخمول ولا يعتبر تقاعده حجّة ليبتعد عن الناس كما كان معتادًا على عشرتهم أيام عمله، حين كان يمرّ بجاره صاحب "الاسبرسو" الصغير ويشرب فنجان القهوة معه على المقعد قبل بداية دوامه. يستمع إلى همومه ويحاول أن يخفف عنه. وكذلك يفعل اليوم، يشعر أن هناك دائمًا من ينتظره ليحكي له. "أقترب دائمًا من الجالسين بمفردهم وأفتح معهم أحاديث عشوائية حتى أصل إلى قصة ما يخبئونها، ودائمًا لدى الناس ما يقولونه ويحتاجون إلى غرباء مثلي يستمعون إليهم".

تُلقي زينب برأسها على كتف صديقتها قبالة البحر بينما تدندنان أغنية لفيروز ترافق صوتها الخارج من الهاتف

تُلقي زينب برأسها على كتف صديقتها قبالة البحر، بينما تدندنان أغنية لفيروز ترافق صوتها الخارج من الهاتف. اتفقتا منذ أشهر على موعد لقاء دائم على الكورنيش صباحًا، حين جرّبتا ذلك منذ مدّة ووجدتا هذا الطقس الصباحي لطيفًا ويساعدهما على التخفيف من ثقل أيامهما، ولأنه الوقت الأنسب لأن يلتقيا بعدما تأخذهما الأعباء ولا يكون بحوزتهما الوقت الكافي ليتكلما. اشترت زينب من فترة قصيرة ثيابًا مخصصة للمشي، تضع السماعات في أذنيها وتنفصل عن العالم الدائر حولها. تمشي لنصف ساعة يوميًا، تقول إن غالبية الذين يقصدون الكورنيش في هذا الوقت هم كبار السن. لا تعرف السبب لكن تقول إن خمولًا كبيرًا أصاب الشباب حتى صار العجائز أكثر حيوية منهم.

"هذا وقت صفاء الذهن، تقصدت أن أوقظ صديقتي يوميًا عند السابعة حتى لا أتقاعس عن النزول، ولكي ندردش قليلًا قبل الذهاب إلى العمل"، تقول زينب. متّن هذا الطقس انطباعات كثيرة في رأس زينب عن بيروت وناسها. تقول إن هذه المدينة في بداية اليوم ساحرة. بالرغم من كل التعب الجاثم تحت أعين المارين، والنعاس المسترخي على وجوههم، غير أنها مدينة حاضنة، تجد فيها احتمالات كثيرة للخروج ولصناعة الفرح، الذي قد يكون بسيطًا، إلى هذا الحد، كمشوار صباحيّ إلى الكورنيش. 

اقرأ/ي أيضًا:

نوستالجيا في مدينة الخامسة صباحًا
عن الباشورة التي تحرس بيروت وتراقبها