29-نوفمبر-2015

تمام عزام/ سوريا

تصعدُ أدراجًا ليست بالكثيرة، تُصادف على إحداها مِقصّ أظافر من القياس الصغير، تنظر إلى سكّينه المُضحك وهو خارجٌ من مكانه المعتاد، تتظاهر بأنك لم ترَ شيئاً، وتُكمل الصعود.

تدخل إلى المنزل على عُجالة، وبعد التأكّد من وجود الذبابة الوحيدة التي تسكن معك، تجلس، وتبدأ جولتك المُعتادة. منفضة السجائر على حالها، ستارة النافذة حافظت على انكسار القماش في أسفلها كما كانت قبل المغادرة، باب الغرفة ما يزال بنصف فتحة، الثلّاجة شبه فارغة، لا جديد.

في الذاكرة المُهترئة، صورة الشابّين اللذين ذُبحا غدرًا خارج حدود بلادهما، على يد خفافيش تنظيم "الدولة". الموت لم يعد مهمًّا، والحياة باتت مخيفةً أكثر منه. ما يُتعب، هو التفكير بلحظات ما قبل الموت. سكّينٌ أمامك، وقرارٌ بشريٌّ بترحيلك من هذا الوجود. دبابةٌ بحالها قادمةٌ لدهسك، وأنتَ تحسبها مزحة مُعدّة للتصوير فقط. قاع البحر يُحاول تذكيرك بأجواء الحرب التي هربتَ منها، وإن نجحتَ بالبقاء فوق سطحه، ستُكمل الهجرة نحو الشمال، هذه هي اللعبة.

لم تعد تمتلك حقّ البوح بمَن تُحب، وبماذا تُوصي، قبل أن تُصبح منسيًّا. لستَ بالقاتل في "A Short Film About Killing"، الذي عاش وقتًا اضافيًا، بتدخينه سيجارةً، لم تُنسِه في النهاية رهبة وضع حبل الإعدام حول رقبته. لا رجعةَ في القضاء عليك، ستُساق إلى حتفك المُعلن، دون أن تسمع عبارة "Dead Man Walking"، ستكون حينها مُكبّل اليدين إلى الخلف، ومحطّ أنظار الجماهير، في ساحةٍ، تخلو في غير يوم من المارّة.

تُحاول الهروب من هذه الذكريات، وتمضية بعض الوقت، في انتظار حدوث الـ"شيء"، الذي ينتظره باقي السوريين. "فيسبوك" هو الحل، لكنك سريعًا ما تجد "بوستات" غرامية لوالدة صديقك، وهي في الستينيات من عمرها. تُرسل لصديقك اللاجئ مستوضحًا الأمر، لكنه اتّخذ قرارًا منذ فترةٍ بالاعتزال، والهروب من هذا الموقع الأزرق الذي احتلّه جيل الخمسينيات قبل جيل التسعينيات، واتّخذوا من "جدرانه" منازل حقيقية لهم.

صورةٌ تَظهر لك، بعدما "أُعجب" بها صديقٌ لم تتواصل معه من قبل. صاحب الصورة تعرفه جيّدًا، فهو مَن كان مقاتلًا في الجيش الحر، وهو الذي انتفضَ في ليلةٍ صيفية وسط مقهىً للإنترنت، حين اقترب تنظيم "الدولة" من دخول مدينته، وقال: "داعش لن تدخل إلا على جُثثنا"، فدخلت "داعش" بعد أيامٍ قليلة، على جثث غيره. أمّا هو، فاكتفى بمبايعة التنظيم لنحو عام، وخرج مؤخّرًا، ليستقرّ به الأمر في ألمانيا.

تُتابع اكتشاف ما تظنّ أنه قد فاتك، فتُصادف بياناتٍ بالجملة مطروحةً على عامة الشعب، للتوقيع عليها، والطريقة، بإضافة الاسم فقط، أي لزيادة العدد قدر الإمكان. حتّى أنّ هذا المتفائل بإنهاء "الأزمة" من خلال إضافة توقيعه، لا يضرّه شيء، إن وضع اسمه الثلاثي أو الوهمي في بيانٍ، يُناقض بيانًا على صفحةٍ أخرى. فسوريا تمرّ في مرحلة التغيّر، وتحتمل اختلاف وجهات النظر للشخص ذاته!

لا شيء جديرٌ بالمُتابعة، فصُور الموت تغلّبت على حسناوات السينما ومشاهيرها، و"بوستات" الحنين للوطن، جعلت لشاشات الحواسيب والهواتف الذكيّة دموعًا لا تجف.

تعود لمراقبة حركة الذبابة، تزيد من تركيزك في تتبّع الخطوط البوهيمية التي ترسمها، تُحاول تشكيل كلماتٍ مُفيدة، علّها تُساهم في حلّ "الأزمة"، لكنّك تستسلم لماضيك. هو ذات الماضي، الذي تشتاق فيه لذاكرة المكان، وليس للمكان. ذاكرة رصيفٍ في أحد الأسواق. وذاكرة شارعٍ، نطقتْ أشجاره يوم وفاة حافظ الأسد. وذاكرة جسرٍ هنا، وصورة وحيدة لكَ على ذاك الجسر قبل انهياره، بقيت في استوديو المُصوِّر هناك. وذاكرة حصّة مادة الديانة، التي كان يُخصّص أستاذها آخر عشر دقائق من وقتها، للإجابة على تساؤلاتٍ ورقية، لا تحمل أسماء أصحابها، تبحث في أمور الجنس وكيفية ممارسته.

يُقاطعكَ صوت الغراب في وداع الليل الطويل، صوته يجلب الحظّ النحس، هكذا يُقال، فتنهض للتأكّد من أنّ الباب مُقفلٌ بإحكام. أصبحتَ مُرغمًا على ممارسة عادة أبيكَ القديمة في اتّباع وسائل الأمان. لكنّ أباك اليوم، بات سمعه ثقيلًا، وأبواب بيته من دون أقفال، وربمّا سيبقى ثلاث سنواتٍ أخرى في أرض النزوح، في انتظار حصول الـ "شيء" أيضًا.

سَكَنَت الذبابة، بعد أن سهرتْ معكَ لآخر نفس، وعاد الحديث مجدّدًا، عن اقتراب نيزكٍ كبير الحجم من كوكبنا، علّ هذا البرميل الفضائي، يكون هو الـ"شيء" المُخلِّص.

اقرأ/ي أيضًا:

أمتعة الحرب

شيزوفرينيا