29-مارس-2016

لماذا ينضم طلاب الطب والهندسة بكثرة إلى الجماعات الإرهابية؟(بلال وجدي/الأناضول)

هذه محاولة لتقديم تفسير جديد لظاهرة "ماتت بحثًا"، ومحاولة أخرى لـ"تمصير" الظاهرة بدلًا من تقييمها كظاهرة عالمية. مفكرون كبار أدلوا بدلوِهم في الموضوع، منظّرون شرحوا الأسباب، مراكز دراسات حدَّدت نسب تقريبية ووضعت مئات الدراسات، صحف خاضت مغامرات، وأجرت تحقيقات، واستطلاعات رأي وتقارير، لكن السؤال لا يزال في حاجة إلى إجابة حتى الآن: "لماذا ينضم طلاب الطب والهندسة "بكثرة" إلى الجماعات الإرهابية؟".

يجتذب "داعش" كل أصحاب الاختصاصات الدقيقة، على غرار الأطباء من أجل معالجة المقاتلين الجرحى، والمهندسين لتشغيل محطات النفط وتصنيع المتفجرات

ذكرت "لوفيجارو" أن "داعش"، في سبيل إنجاح مشروعه وبناء دولته، يجتذب كل أصحاب الاختصاصات الدقيقة، على غرار الأطباء من أجل معالجة المقاتلين الجرحى، والمهندسين لتشغيل محطات تكرير النفط وتصنيع المتفجرات، وخبراء الاتصال من أجل نشر دعاية التنظيم، والموظفين الإداريين من أًصحاب الخبرة لضمان فعالية إدارة شؤون هذا التنظيم.

آخر إحصائية منشورة في دوريات عالمية كانت لمارتن روز، مستشار المجلس البريطاني لشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تحت عنوان "تحصين العقل"، يقول: "48.5% من المجندين في التنظيمات الإرهابية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من خريجي الجامعات، و44% منهم من خريجي الهندسة، موضحةً أن "عقلية الهندسة والطب" تجعل طلاب العلوم فريسة سهلة للتجنيد في الحركات الإرهابية".

اقرأ/ي أيضًا: المحاظر الموريتانية في مرمى الإرهاب

وحاولت الإحصائية تقديم تفسير جديد كان لباحث اقترب ورأى، وهو أحمد الصغير في كتابه "الجلمود" الصادر حديثًا بالقاهرة، ويعمل مرشدًا سياحيًا، قابل مجموعات ضخمة من الأشخاص حجزوا من وقته القليل لقضاء رحلة سياحية في مصر فجعلهم موضوعًا لدراسته، كانوا مصريين وعربًا وأوروبيين وأمريكيين، كانوا يعتبرونه مرشدًا، ويعتبرون أنفسهم سياحًا، لكنه اعتبرهم موضوع دراسة هي "لماذا يميل الأطباء والمهندسون لخدمة الإرهاب؟". ستقول: "وما علاقة مرشد سياحي بقضية التطرف؟".

والإجابة: لأحمد الصغير، الذي ولد في العام 1972 بمحافظة قنا وتخرج من كلية السياحة والفنادق بالمنيا في العام 1994 قصة، نشأ اهتمامه بالفكر المتطرف ودراسته خلال سنوات إقامته فى المنيا أثناء موجة إرهاب التسعينيات، بدأ القراءة فى التراث الإسلامي من أيام الجامعة، حصل على دبلوم دراسات عليا فى المصريات بعد تخرجه، عمل مرشدًا سياحيًا بشكل خاص مع الإنجليز منذ العام 1995، وأصدر ثلاث روايات آخرها روايته "الملائكة لا يكذبون"، والتي ناقش فيها فكرة التطرف الإسلامي. 

هو إذًا مرشد سياحي، باحث في المصريات وكاتب روائي، ما الذي يجعله يكتب في قضايا الفكر الإسلامي، ما الذي يجعله يعرض نفسه للمخاطر ويكتب "الجلمود" بما فيه من مناطق شائكة وألغام قابلة للانفجار في أي لحظة؟

يجيب أحمد الصغير: "بدأت كتابة الجلمود بعد 25 يناير مباشرة، تم ذلك على فترات متباعدة، وإذا سألتني ما الذي دفعني إلى ذلك؟ سأقول لك: التغييرات الكثيرة التي حدثت في الشارع المصري، طفح التيارات المتطرفة على تفاصيل الحياة، كنت أعرف ما الذي يعنيه الفكر المتطرف، وما الذي تريده الجماعات المتطرفة؟، عندما رأيتهم وجهًا لوجه يتجولون في الشوارع أصابني الفزع، شعرت أن هذا وقتي وحان دوري، اعتبرت الكتابة جزءًا من المجهود الحربي".

اقرأ/ي أيضًا: طلبة الرقة في مواجهة "داعش"

اقترح مارتن روز في دراسته إضفاء لمسة إنسانية على المناهج الجامدة للهندسة والطب، ولكن الصغير يحمل رؤية أخرى يبدأ عرضها بتسجيل أخطر ملاحظة حول ظاهرة إرهاب الأطباء والمهندسين، وهي:

"تنبأ بأننا مقدمون على عصر علمي أكثر انحطاطًا لأنَّ أجيالًا من أطباء ومهندسي مصر في المستقبل القريب جدًا قد تنازلوا عن عقولهم طواعية ولا يصرفون جهدهم العقلي والمهني في تخصصهم لأنهم ألقوا بحماسهم في غير موضعه، وتجلى ذلك حينما رفض بعض الأطباء معالجة المصابين والمجروحين والنازفين فيما يسمى بأحداث قصر الاتحادية، لأنَّ هؤلاء المصابين يختلفون عنهم فكريًا".

ويحاول فكّ طلاسم هذا المشهد العبثي مسجِّلًا تفاصيل من قلب الأزمة المتوغّلة في مصر: عدد ضخم من مقاتلي داعش وقياداته مصريون، بالإضافة إلى سيطرتهم على "بيت المقدس" المعروف بولاية سيناء، وعلاوة على ذلك، فإن أيمن الظواهري، زعيم تنظيم القاعدة، طبيب مصري، وكانت هذه قراءته:

1. بعض هذه الكليات خاصة في مصر الوسطى قد سيطر على بعض أقسامها بعض الأساتذة المتطرفين دينيًا، وتأثر بهم الكثير من طلابهم، إما تعلقًا نفسيًا لأنفس وعقول استبد بها الجهل بالدين، فرأوا في هؤلاء الأساتذة أمثلة قائمة للإيمان الذي جهلوا حقيقته ويتوقون إليه ويفتخرون بنجاحه عمليًا، أو تعلقًا مصلحيًا (نفعيًا) طمعًا في التقرب للأساتذة لحصد مكسب هنا أو هناك.

2. في بعض كليات الطب التي تجتذب إليها عددًا كبيرًا من الأقباط، هناك تنافسٌ طائفي أوقد نيرانه وألظاها اتقادًا بعض الأساتذة ورؤساء الأقسام المختلفة. لهذا الصراع الطائفي انعكاسٌ لما يحدث في المجتمع الطائفي في أعماقه.

3. تلك المرحلة العمرية من الثامنة عشرة تقريبًا هي المرحلة المثلى للتأثر والانجذاب لدرجة الذوبان في الأفكار المثالية والتي يمثلها في المجتمعات الشرقية الدين. وحين لا يجد طالب الطب والهندسة أبًا مثقفًا أو أمًا ضامة أو واعظًا دينيًا مستنيرًا قوي الحجة، فإنه يندفع تجاه الخطاب الديني الحماسي الذي يصادفه في مسجد الكلية ودروس المدينة الجامعية أو دروس المساجد المتناثرة بالقرب من الجامعة أيام الثلاثاء والأربعاء. وطالب الطب والهندسة ليس لديه من الوقت فائضٌ لبحث وتدقيق وتمحيص ما يسمع، وهو أيضًا -شأن معظم المصريين- ليس لديه ثقافة البحث هذه من الأساس، فأينما تأثر بأي خطاب سلَّم له عقله واندفع وراءه معتقدًا بذلك أنه يجبر المكسور في ثقافته الدينية ويكمل المنقوص مما يتوجب عليه تجاه دينه حسبما أوهموه في تلك الدروس.

4. هناك قطاع كبير من هؤلاء الطلبة من أسر شديدة الفقر. تفوَّق الابن أو الابنة، وحسبوا أنَّ هذا التفوق يكفي لشق الطريق في أي كلية دونما النظر للنفقات الباهظة التي تتطلبها الدراسة في بعض الكليات العملية كالطب والهندسة من مراجع ودروس خاصة ورشاوى في بعض الأحيان، بالإضافة إلى محاولة مجاراة المظهر العام لأقرانهم من الأسر ميسورة الحال. يعانون في العام الأول معاناة شديدة ثم فجأة يظهر لهم من يمد لهم يد العون، فيوفر لهم ما يحتاجونه من مراجع علمية مجانًا ودروس خاصة يُلقيها بعض الأساتذة المتطرفين بالمجان، بل ويوفرون لهم مصاريف شهرية منذ بدء الدراسة. فهؤلاء الطلاب يقومون بتسليم أنفسهم وعقولهم طواعية لمن وفَّر لهم كل ذلك، وبمجرد أن تنزلق أقدامُهم في تلك الدائرة لا يخرجون منها أبدًا طمعًا في المزيد أو خوفًا من دفع ثمن الخروج والتمرد.

5. هناك أخطاء يرتكبها القائمون على التعليم قبل الجامعي. ففي المرحلة الثانوية يتم تصنيف الطلاب إلى القسم العلمي والقسم الأدبي ثم يتم قطع العلاقة بين مادة التاريخ وبين طلاب القسم العلمي الذي يلتحق نخبته من الطلاب فيما بعد بكليات الطب والهندسة. وهذا يعني بوضوح أنَّ علاقة هؤلاء بدراسة تاريخ بلدهم مصر قد انقطعت في بداية المرحلة الثانوية. وهذه خطيئة كبرى، أن يتم التعامل مع تاريخ مصر كمادة تخصصية وليست مادة أساسية في كل الأقسام تمامًا كاللغة العربية، ثم يأتي شيوخ التطرف في الجامعة وأساتذة التطرف في كليات الطب والهندسة فيجدون عقولاً خاوية فيملؤونها بما يريدون.

في المرحلة الثانوية يتم تصنيف الطلاب إلى القسم العلمي والأدبي ثم يتم قطع العلاقة بين مادة التاريخ وبين طلاب القسم العلمي وهذه خطيئة كبرى

6. لا يقل عما سبق إثمًا وخطيئة انتقاء صفحات من التاريخ المصري وتجاهل صفحات أخرى كتجاهل فترات تاريخ المصريين المسيحيين، بداية من عصور الاستشهاد التي شهدت مذابح دموية ارتكبها الرومان ضد المصريين المسيحيين وامتدت تلك العصور لعقود طويلة دافع فيها المصريون عن عقيدتهم وحضارتهم فكيف يتم تجاهلها؟! إنَّ تجاهلها يعمِّق شعور التعالي عند بعض المصريين ضد مصريين آخرين ويُوجِد إحساسًا لدى الطلبة المصريين المسلمين بالتميز والانفصال عن أقرانهم المسيحيين.

7. غالبًا ما تجد الأقل حجة وعلمًا وثقافة هو الأعلى صوتًا، وهذا ما حدث من الطبيب الشاب صاحب الخطبة الذي لم يقرأ كتابًا واحدًا فقهيًا أو تاريخيًا، ثم تجده الأعلى صوتًا.

8. بعضهم حمل في ذاكرته بعضًا من، أو كل، القرآن الكريم حفظًا منذ الصغر، ويعتقد أنَّ حفظه للقرآن جعل منه فقيهًا ذا وصاية، ويستشهد بالآيات القرآنية ويؤوِّلها على غير ما تحتمل أو حتى ينقل أحد التأويلات ويعتقد أنه التأويل الأوحد الذي قال به العلماء كأن يقول ما قال صاحبنا: "من لم يحكم بما أنزل الله"، دون أن يكلف نفسه قراءة ما سبقها من آيات أو ما قال به العلماء من أسباب نزول الآيات.

اقرأ/ي أيضًا:

طلبة سوريا مدعوون للثورة من جديد

تنظيم الدولة يمنع الاختلاط في جامعة عدن