05-يونيو-2022
كاريكاتير لـ إنريكو بيرتوتشيولي/ إيطاليا

كاريكاتير لـ إنريكو بيرتوتشيولي/ إيطاليا

يعجبني مشهد الرسالة الملقاة في الزجاجة على ما فيه من جرعةٍ رومانسية، رغم التسليم بسذاجة من يلقيها في الماء ظنًّا منه أن أحدًا سيأتي لنجدة غريب لا يعرفه لمجرد أنه تلقى منه كلمات.

يدرك من يلقي تلك الرسالة أنه يفعل ذلك دون جدوى. لا هي تجلب خلاصًا، ولا تصنع له مخرجًا. ويعرف جيدًا أنها ليست سوى عارض صغير لذلك المرض العضال الذي يُولد البشر مصابين به: الأمل

يأتي ذلك المشهد في اللحظات العصيبة من الأفلام، حين يصل الأبطال إلى ضياع لا يمكنهم الفكاك منه، ومع ذلك نراهم يعتقدون أنَّ كلماتٍ قليلة قادرة على إنقاذهم.

لو حدث لشخص أن اضطر إلى كتابة رسالة وإلقائها في البحر، فلمن سيرسلها؟ وما الذي سيقوله فيها؟ وإلى أي حد سوف يؤمن أن كلماته الأخيرة ستصل إلى يدٍ مستعدة لتهب إلى النجدة؟ ما صورة الحياة في رأس شخص ينتظر إنقاذًا؟ ما الذي يريده أكثر من الخروج من المتاهة؟ ثم حين يكون هناك أحد عالق ما الذي يريده من اللغة أكثر من كلمة "أخرجوني"؟

لو نظرنا إلى الناحية المجازية واعتبرنا حياتنا متاهة نرغب بالخروج منها، وما هذه الرسالة إلا تعبير عن ذلك المأزق، فلا أظنّ أننا نحتاج إلى جزيرة ضائعة في المحيط، ولا إلى صحراء تغيّر ملامحها كل دقيقة، إنما مجرد انتباه إلى أن حياتنا فعلًا جزيرة ضائعة، أو صحراء تيه، وما نحن إلا يائسون يطلبون الخروج من المتاه وحسب.

يدرك من يلقي تلك الرسالة أنه يفعل ذلك دون جدوى. لا هي تجلب خلاصًا، ولا تصنع له مخرجًا. ويعرف جيدًا أنها ليست سوى عارض صغير لذلك المرض العضال الذي يُولد البشر مصابين به: الأمل.

أكثر ما يجسّد هذه الرسالة هو شواهد قبور القدماء، التي يُخبرون بالنقش على حجارتها الكثير عن أنفسهم، بشكل يبدون فيه عالقين في جزيرة أو صحراء، ولم يبق لهم غير كلمات أخيرة تقول، عبر الزمن، من كانوا وما فعلوا. فهل رسالة الزجاجة محاولة للحصول على شاهدة قبر مشابهة؟

لو اضطررتُ لكتابة هذه الرسالة فلمن أوجهها يا ترى؟ وماذا أقول فيها؟ ربما لو فكّر كل منا بكتابتها لعرف أكثر ما يقلقه، ولاستطاع عند هذه النقطة فهم نفسه، ومن ثم اختصار حياته في بضعة سطور.

هل نكتب لمن نحبّ؟ لا شك أنه ما من شيء يستحق مساحة في كلماتنا الأخيرة مثلما يستحقها الحب. لكن هل نحكي عن العلاقة كما هي أم كما تمنينا أن تكون؟ لا يهم أبدًا.. تلك مجرد تفاصيل، الأَولى أن يحضر الحب لأنه لا يُمثّل جوهر الإنسان شيء مثلما تفعل كلمة "عاشق"!

هل نكتب لصديق؟ لم لا؟ هل من ضرورة لوجود صديق في اللحظات الأخيرة؟ هل الكتابة إليه تشعرنا بالقوة التي نحتاجها في ظل سيطرة الضعف على كياننا؟ ما فائدة الصداقة هنا؟ أليست أمرًا يتعلق بالحياة وينتهي مفعوله عند موت أحد الطرفين؟ ألا نحيا مع الأصدقاء لكننا نموت من دونهم، كما يموتون من دوننا؟ الصداقة شأن للحياة لا للموت. ربما نريد الكتابة إليهم لأنهم أكثر من يفهموننا، ولأننا نحب في لحظات النهاية أن نشعر ببعض الأُنس، مع إدراكنا العميق بأننا ميتون وحيدين.

ما الكلمات الأخيرة التي نرغب بقولها؟

يحدث دومًا أن الجميع لديهم كلمات أخيرة يريدون قولها. ربما لا أحد يمتلكها، أو لا أحد يريدها

 

يحدث دومًا أن الجميع لديهم كلمات أخيرة يريدون قولها. ربما لا أحد يمتلكها، أو لا أحد يريدها، لكنني أحب تخيّل ذلك.

صحيح أن الموت في مجيئه المعروف بالمباغتة لا يُمهلنا وقتًا نرتب فيه كلامًا وأفكارًا، إلا أن الشخص الذي أتخيله وسط الضياع، في المحطة ما قبل الأخيرة من الموت، يمتلك وقتًا يكفي ليقول كلمات أخيرة. غير أن السؤال: أهي اعتذار؟ تحية؟ اعتراف؟ هل سيأتي ذلك في حالة غفران؟ غضب؟ هدوء؟ يأس؟

هذا ما لا نعرفه، وكأنّ أحدًا لم يقله أصلًا، لأن الرسائل الأخيرة لا تصل، وربما لا يوجد من يرسلها أصلًا.. إلا في الأفلام.