20-سبتمبر-2016

غلاف المجموعة القصصية

عرف المشهد الأدبي الجزائري، في العقدين الأخيرين، ابتلاعَ الجامعة لنخبة من القصّاصين والروائيين والشعراء، تركت الكتابة في هذه الفنون، إما لصالح النقد والبحث العلمي، ولهذا أهميته في سياقه، وإما خضوعًا لإكراهات/ طموحات مختلفة. في مقابل نخبةٍ ثانيةٍ استطاعت أن تزاوج بين الكتابة الإبداعية والبحث، ونخبةٍ ثالثةٍ، فضّلت أن تؤجل مشاريعها الأدبية، من زاوية النشر على الأقل، حتى "تصفي حساباتها الأكاديمية"، مثلما فعلت القاصة كريمة عيطوش، أستاذة علم الدلالة في جامعة بجاية.

عرف المشهد الأدبي الجزائري، في العقدين الأخيرين، ابتلاعَ الجامعة لنخبة من القصّاصين والروائيين والشعراء

انتابتني عدة أسئلة، حين قرأت مجموعتها القصصية الأولى "الوجه الثالث للموناليزا"، التي صدرت، هذه الأيام، عن "دار ميم" لصاحبتها القاصّة آسيا علي موسى، منها: كيف استطاعت ساردة تملك مشروعًا إبداعيًا ناضجًا، أن تصبر على النشر كلّ هذه السنوات، من غير أن تقع في شهوة أن يقرأها الناس، والتي لا يستطيع كاتب أن يُنكر إغراءاتها؟ سؤال مبرّر كثيرًا، في ظلّ التهافت الملحوظ لأنصاف المواهب وفقراء الإبداع، على أن يظهروا/ينشروا بكرةً وأصيلًا، بوقاحة تكاد تصبح العنوانَ العامَّ للمشهد الجزائري. 

اقرأ/ي أيضًا: كارمن لافوريت: سأبقى وحيدة!

ثمانية نصوص قصصية، اختلفت عناوينُها ومناخاتُها وأصواتُها وضمائرُها، لكنها التقت في الوعي العميق بطبيعة اللغة، التي انبغى اختيارُها، لرصد الحالات الإنسانية والوجودية، من غير تعتيم أو إضاءة ليسا مبرّرين فنيًا، وهي، بهذا، انسجمت مع تقنيات الفن التشكيلي، الذي يُحيلنا عليه عنوان المجموعة الحامل لاسم واحدة من أشهر اللوحات في تاريخ الفن، وأكثرها إثارة لعلامات الاستفهام. 

تشترك هذه النصوص أيضًا، في كونها استثمرت في روح الأسئلة، سواء تلك التي طرحتها مباشرة، أو تلك التي دفعت المتلقي إليها، من خلال ترك فراغاتٍ، أملتها رغبة الذات الكاتبة في سحب هذا المتلقي إلى بقعة غير ملونة، ليكون "شريكًا في العملية الإبداعية"، وفق المصطلح النقدي الحديث، بطرحه السؤالَ الراغبَ في مزيد من متعة التيه. هنا، أبادر إلى القول إن ما يميّز السؤال، الذي تحملنا فراغاتُ هذه التجربة على طرحه، هو الرغبة في المتعة لا الفهم، وهو بهذا سؤال شبيه بإقدامنا على غلق الباب، في غرفةٍ ما، حتى لا نغادر عسلَ اللحظة. 

لم تبتعد هواجس النصوص الثمانية، عن هواجس النساء العاديات، مثل الخوف من فقدان الطرف الآخر بعد تحصيله، أو الخوف من عدم مجيئه قبل ذلك، لكن العين اللاقطة للكاتبة، نقلتها من "مقام المستهلَك" إلى "مقام المدهش"، وجعلت القارئ "يكتشف العادي"، بلغة الشاعر عمّار مرياش، وكأنها تعمّدت الخوض في مواضيعَ بسيطةٍ، لتكون المغامرة على مستوى طريقة التناول، لا على مستوى طبيعة الموضوع، وهو ما يجعل نضج الذات الكاتبة، التي تفضّل هذا الطريق، محلَّ اختيار صارم، لن تخرج منه سالمة، إلا إذا فعّلت حواسَّها جميعَها. 

تأتي المغامرة في "الوجه الثالث للموناليزا" على مستوى طريقة التناول، لا على مستوى طبيعة الموضوع

إن القارئ يجد نفسَه، وهو يقرأ هذه النصوص، مدفوعًا عفويًا، إلى أن يشمّ الروائح ويسمع الأصوات ويرى الألوان، ويتذوق التوابل ويلمس الأشكال والأماكن، وقد يمرّ بحالةٍ/فكرةٍ، ذلك أن عناق العاطفي والفكري كان مهيمنًا على جميع مفاصل التجربة، فيحير من عدم انتباهه إليها بنفسه في يومياته. ولئن كان بعض الملتزمين العرب يراهنون على ثلاثية "الحق والخير والجمال" فيما يكتبون، فإننا نستطيع القول إن "الوجه الثالث للموناليزا" كان ثمرة ثنائية "الصدق والذكاء". 

اقرأ/ي أيضًا: ماذا لو لم يكن ثمة عاهرات؟!

 يحقّ لنا اعتبار كلّ نصّ من النصوص الثمانية، ميني رواية: أطولَ من قصّة وأقصرَ من رواية، وقد توفرت العناصر الروائية، الضرورية منها على الأقل، من وصف وحوار وأحداث ومكان، لقول ذلك من غير تردّد، ولا شكّ في أن الحوارات، التي ستُجرى مع الكاتبة مستقبلًا، ستساعدنا في معرفة إن كان هذا خيارًا سرديًا منها، أم هي إكراهات اليوميّ دفعتها إلى "إجهاض" ما كانت تنويه رواياتٍ متكاملة الأركان. 

 "الآتي جسر نيّر قلّ من يرى قسماتِه بوضوح، والهمّ نابٌ لا يستأذن فريستَه. الحلم للجميع، فمن يجرؤ على قتل الحلم؟". كان هذا مطلع "الوجه الثالث للموناليزا"، النص الذي حملت المجموعة عنوانَه. ولئن كان نادرًا أن يَصلح مفتاحُ الباب الخارجيِّ للبيت، لفتح باب إحدى الغرف في الداخل، فإنه يندر أن نجد مبرّرًا مقنعًا، من داخل التجربة الإبداعية نفسِها، لحمل المجموعة القصصية أو الشعرية المتكونة من نصوصٍ عديدةٍ، عنوانَ أحد النصوص التي تضمّنتها، ذلك أن العنوان شبيه المفتاح، لا يفتح إلا ما اختصّ به، وقد تمنّيت لو أن الكاتبة انتبهت إلى هذا المعطى، في سياق وعيها بتجربتها السردية.

اقرأ/ي أيضًا:

لطيفة الزيات.. عشرون عامًا على الرحيل

مها حسن.. في "مترو حلب"