10-أبريل-2023
من تيولوجيا العصر الوسيط إلى فلسفة الأزمنة الحديثة

كتاب من تيولوجيا العصر الوسيط إلى فلسفة الأزمنة الحديثة

صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات من (سلسلة أطروحات الدكتوراه) كتاب محمد إشو من تيولوجيا العصر الوسيط إلى فلسفة الأزمنة الحديثة: من منظور الفيلسوف إتيان جيلسون. يقع الكتاب في 280 صفحة. ويشتمل على ببليوغرافيا وفهرس عام.

يعد الفيلسوف الفرنسي إتيان جيلسون من أبرز الفلاسفة الذين أنجزوا مشروعًا فكريًا متكاملًا عن الفكر الفلسفي في العصر الوسيط، خلاصته أن الأزمنة الحديثة بدأت في القرن الثالث عشر، لا في القرن السابع عشر، مخالفًا بذلك التصورات التي حصرت الحداثة داخل دائرة مغلقة وأحادية. وتضع هذه الخلاصة المساهمة العربية ضمن أهم المصادر التي شكلت الفكر الحديث. وهذا الموقف ليس مجرد تأويل مشوه لكتابات جيلسون، بل هو إقرار مباشر وصريح في كثير من أعماله الأساسية. ولا شك في أنه موقف يكسر "الستائر الحديدية" التي وضعها بعض المستشرقين، وثبتها إرنست رينان، قصد حجب "الثورة الإبستيمولوجية" التي أحدثها الفكر العربي الإسلامي في أوروبا الوسيطة.

يعد إتيان جيلسون من أبرز الفلاسفة الذين أنجزوا مشروعًا فكريًا متكاملًا عن الفكر الفلسفي في العصر الوسيط، خلاصته أن الأزمنة الحديثة بدأت في القرن الثالث عشر، لا في القرن السابع عشر

ومعلوم أن الأفلاطونية المحدثة هي المهيمنة في الفكر الأوروبي خلال العصر الوسيط المتقدم، ولم يتعرف الأوروبيون بالأرسطية إلا عن طريق العرب، لذلك فتأكيد جيلسون أهمية الفلسفة العربية، نابع من قناعته أن الفراغ لا يوجد في التاريخ؛ فديكارت، وباسكال، وليبنتز، وبيكون ... إلخ ليسوا أكثر أهمية من توما الأكويني، وابن رشد، وألبير الكبير، وابن سينا ... إلخ.

الجدال بشأن الفلسفة المسيحية

مرّ الجدال بشأن الفلسفة المسيحية بمراحل متنوعة، منها المرحلة الكلاسيكية (مع صيرب ومارتن لوثر)، والمرحلة المعاصرة (مع ماريتان وبلونيل وجيلسون وبرهييه وهايدغر وستينبرغن). واحتدم هذا الجدال بالضبط في الثلاثينيات من القرن العشرين، واستمر حتى وفاة جيلسون في نهاية السبعينيات (1978)، وأسفر عن مجموعة من الأعمال الفلسفية القيّمة لإتيان جيلسون وهايدغر وستينبرغن. واللافت للانتباه أن جيلسون لم يتراجع عن موقفه قيد أنملة، وهو الموقف الذي يذهب إلى أن الفلسفة في العصر الوسيط هي فلسفة مسيحية.

في خضم هذا الجدال، من الصعب الحسم في تحديد من هو على حق، أهو جيلسون أم برهييه أم هايدغر؟ لكن الواضح أن في العصر الوسيط مفكِّرين عظماء شيَّدوا على أنقاض الوحي وحكمة اليونان فلسفةً أثَّرت تأثيرًا عميقًا في الفكر اليوناني، وفتحت له عوالم جديدة، لم يكن يتخيَّلها لا أفلاطون ولا المعلم الأول، أخذت قسطها من العقلانية، واهتمَّت بما يشغل الناس في ذلك العصر من دين وعلم وسياسة وهيمنة الدين على جميع الانشغالات الأخرى، مردُّ هذه الفلسفة إلى اعتقادهم أنها تتضمن جميع هذه المجالات، وقادرة على الإجابة عن جميع الأسئلة التي تؤرِّق الناس في ذلك العصر، كما هو الشأن اليوم حين يظن المرء أن العلم التجريبي هو الكفيل بحلِّ جميع القضايا التي تهمُّ الحياة الإنسانية.

نضج الفكر المسيحي في القرن الثالث عشر

كان للتأثير العربي الإسلامي في الفكر المسيحي الوسيطي أعمق الأثر؛ إذ جعل منه فكرًا أكثر نضجًا وثراء، وأعاد إليه الجدَّة والحيوية اللتين كان يفتقر إليهما منذ التحديث الذي قام به الإمبراطور شارلمان، بأن أخرجه من مناقشة اللاهوت الأبوي إلى محاورة اللاهوت الطبيعي، متوسلًا بأرقى الأساليب العقلانية المنطقية، وبأفضل مناهج التحليل والمحاججة؛ أي إنه أخرجه من إعادة الإنتاج إلى الإنتاج والإبداع. وكانت الترجمة من العوامل البارزة التي دفعت بهذه الدينامية الفكرية في القرون الوسطى، والتي بلغت ذروتها في القرن الثالث عشر، عندما توّجت بتأسيس الجامعات لتدريس ما تُرجم من كتب أرسطو وكتب الفلاسفة المسلمين وكتب الفلك والطب. لذلك لا تأخذنا الدهشة حين نجد أن القرن الثالث عشر هو قرن الخلاصات الفلسفية، كما سمَّاه جيلسون؛ فعلى سبيل المثال، "أعمال ألبير الكبير تتجاوز واحدًا وعشرين مجلدًا من الأجزاء الكبيرة"، أي حوالى 8000 صفحة. ويعبّر هذا الإنتاج الضخم عن وجود حركة فكرية حقيقية؛ فأولئك المعلمون لا يؤلِّفون إلا المجلدات، وما كانوا ليكتبوها لولا وعيهم التام بأن هناك من سيقرؤها، وما كانوا ليكتبوها لو لم يكونوا عظماء حقيقة؛ إنهم لا يعرفون كتاب الجيب (Livre de poche)، بل إنهم لا يتعاملون إلا بالكتب الضخمة التي تحتاج إلى بصيرة قبل البصر وإلى تحقيق قبل النظر، إنها تحتاج إلى وقت طويل ومعاناة لقراءتها، ما ينم عن أن هؤلاء لا يضيعون الوقت، أو بالأحرى ليس لديهم وقت حرّ، وقتهم يشغله العلم وتملؤه القراءة، ولهذا ينبغي أن نتحلى بالنفَس ذاته لنستشفَّ بعضًا من خلاصاتهم، ونقوي شغفنا بالمعرفة التي اختص بها أولئك المعلمون الذين كان لهم الفضل الكبير في التأسيس للأزمنة الحديثة، أي إنهم الأوائل الذين وضعوا القواعد الرئيسة التي مكَّنت الإنسان من توسيع نطاق سيطرته على الطبيعة.

كان للتأثير العربي الإسلامي في الفكر المسيحي الوسيطي أعمق الأثر؛ إذ جعل منه فكرًا أكثر نضجًا وثراء، وأعاد إليه الجدَّة والحيوية اللتين كان يفتقر إليهما منذ التحديث الذي قام به الإمبراطور شارلمان، بأن أخرجه من مناقشة اللاهوت الأبوي إلى محاورة اللاهوت الطبيعي

مظاهر الفكر الوسيطي في الفكر الحديث

رغم أن ديكارت هاجم التراث السكولائي بشدة وصرامة تعبران عن رفضه الصريح لبعض أشكال التفكير في تلك الحقبة، فإنه في ما يختص بالميتافيزيقا ظلَّ وفيًّا لمضامينها وتوجهاتها العامة. وقد تبين ذلك في مجموعة من الرسائل التي كشفت عن مشاعره الحقيقية الداخلية تجاهها، وهذه المشاعر لا يستطيع أحد أن يكشف عن مغزاها ودلالاتها. يقول جيلسون: "إن الجانب النفسي الشخصي لفيلسوف ما، ينفلت من المؤرِّخ، لذلك لا نستطيع أن نقول بيقين كيف كان شعور ديكارت تجاه الميتافيزيقا".

ومن هنا يظهر أن التأريخ لفيلسوف يظلُّ مرتبطًا بشخصية المؤرِّخ، بمعنى أن زاوية نظره تبقى نسبية ما دام هناك جانب خفي ليس في مقدور أحد أن يعلمه، وهو جانب الإحساس الشخصي. ومن ثم، فإن الرأي القائل بأن ديكارت قد تجاوز السكولائية وأسَّس لنفسه فلسفة ومنهجًا مستقلًا هو ضرْب من الخيال والافتراض، وليس رأيًا صائبًا البتة.

من الاختلافات الجوهرية التي كانت بين ديكارت والسكولائية - هذه الأخيرة المتجسِّدة في رمزها ومعلمها الكبير - "أن توما يعتبر وجود العالم الخارجي حقيقة يقينية، لا حاجة إذن إلى المرور من الكوجيطو، بينما كان ديكارت يرى عكس ذلك، معتبِرًا أن وجود العالم الخارجي ليس ببديهي، فالشيء الوحيد اليقيني هو الكوجيطو"، والعالم الخارجي لا يمكن في نظره أن يكون نقطة انطلاق لبناء المعرفة، لكنه مع ذلك ظلَّ مبدأه الأول.

الجدير بالإشارة أن الغاية من مقارنة الفكر الديكارتي بالفكر السكولائي والأوغسطيني، ليست الوصول إلى نتائج تؤكِّد أن ديكارت كان سكولائيًّا قسرًا، بل تنحصر أساسًا في تبيان أن ديكارت هو استمرار للفكر المسيحي الوسيطي الذي شهد تطورًا وازدهارًا كبيرًا في القرن الثالث عشر، وديكارت نفسه هو نموذج أنتجه هذا الازدهار البديع.