24-أبريل-2022
محمد المطرود وكتابه

محمد المطرود وكتابه

هذه مجزرةٌ تستفزُ الخيال، غير موثقة بأجهزة الحرب المعتادة وكاميراتها وشهود عيانها، ترى أخاديد الكلام تتشظى على كفوف المعنى وتمد يدها للعقل وتهديه قنبلة من غير وقتٍ، لا مسافة للزمن هنا، فالزمن أقرع، والمكان أنت يا قارئ، وأنت أفظَع بمحاكاة سيرتهِ، حين الفظاعة انفجار المعنى في النفس، والأسئلةُ الكثيرة التي يثيرها بدوي عارفٌ بصحرائهِ ومدنكَ.

في كتاب "سلالة العجاج" ، يأتيك التوثيقُ كأشلاءِ توأمين أو قرينين هما ربّما هدار وسم البدو بطل السلالة المهداة للعجاج ومحمد المطرود

 

في "سلالة العجاج: وسم البدو وأنا / النهايات والساعة الإضافية" (المؤسسة العربية للدراسات 2022)، يأتيك التوثيقُ كأشلاءِ توأمين أو قرينين هما ربّما هدار وسم البدو بطل السلالة المهداة للعجاج ومحمد المطرود الذي يضيعُ بين أمسه ويومه. أحدهما غزاه الجرحُ وهو ملح القصص وصمام شجاعة ولاوي الزمن وفيلق كرم، طاوي المكان بهديره، والآخر النقيض الشبيه القريب البعيد والي الآه ومحتل الأنا، سارد السقم، اليتيم الغني، اللاحق بالفهم والمعرفة، يحمل مرآة مشروخة في اليسار الأعلى، ويعكس لك في الحوادث ما لا تراه في سيرة الأول على شاشة مرآته، سينماه التي في العراء الطلق، وإن كانت السيرة سيرة وئامِ فيها المرغوب من التوافق، والتلامس اللزج المليء بنكهات المغامرة، والخدر المعشبة، و"شم الحنج" عند مهوى القرط، لترى في مرآته فوانيس الغضب أيضًا، وهياج القبيلة، وضمور عضل الخيل، وغبار الثأر، المرآة ثقيلة يا نصفي يا أنا أو أنت، يقولها ويديه تعبق الدم والندم، محمد المطرود في سلالة العجاج، يمرّ بكلّ شيء بلغتهِ العالية وايحاءاته التي تجعلكَ أن تتعبَ وتشاركهُ "متعة اكتشاف" ما وراء الايحاءات!

زمان العطب/ مكان القارعة

لا يكمن استحضار الزمان في السؤال متى؟ ولا حصر المكان في زاوية ما عند السؤال أين؟ فالزمان هنا مكانٌ مثل قطعة الجوز بشقيها، لا تختلط الأمور ولا تتلون فالزيتُ زيتٌ والماء وسيفه ماءُ حين يكتب "يا حامل سيف الماء، قد حدث ما يحدث الآن في النفس والمخيلة، مد الغبار على الشجر الأخضر، وحتى النهر الأسمر الكهل، يتوسد زند النفس وينام ليصغر ويغرف الماء في الأحلام، وتبنى فوقه الجسور على مرمى القهر، حتى وإن كان شمالًا فهو أيضًا جنوبٌ، الفارق الأوحد يُترك اللون كبقايا زخرفة استثمرها النص. أما القرى التي تبتلع التراب الخاكي، تكون أقرب لأبٍ يطمر أولاده بإصرار النمل على المثابرة، لا تفتأ إلا وتعصر حلوق المبتلين بها، تعصر كي تُخرج فطير البؤس المكلل بسحابات الضنك وشحّ السماء والأرض، فهي شخصية قابعة في الوصف كأساس، شخصية تلتهم أطفالًا وعشاقًا، ونصف القرين والمرآة كجفلة غزالة تلتفت إلى البريات، في سلالة العجاج، لا يمكنُ للقرى أن تنام، ولا يمكن لأبطالها أن يكونوا إلّا قلقين، وما يخفّف هو شعريةُ السرد، السرد الذي يقلّل من حجمِ الألمِ غير المرئي والمصرح به، لكنّه يخرجُ من العنوان الرئيسي، ومن العنوان الفرعي "وسم البدو وأنا/ النهايات والساعة الإضافية".

الساعة الخامسة والعشرون: يلعادتك تتأخر

الساعة الإضافية حلمٌ بل مبتغى العاشق المطرود، مسلوبة الحق، تتماهى مع الفكرة وإنها القالب، فلربما القدرة على التذكار هي الساعة الخامسة والعشرون، وإذا كانت هذه عنوان رواية، تتحدث عن أهوال قسطنطين جيورجيو، فهي هنا تلاحقُ صاحب سلالة العجاج وقرينهُ مثل ظلّ أو لعنةٍ، لنحسّ في النهاية أنّ كلّ منا نحن قراءً أو أصدقاء أو قريبين من لعنة هذا البدوي بحاجة إلى هذه الساعة، ونطالب بها قبل الذبح.

الأشياء ومقص الشعور

اعط الشعور ما له كما لو أنه ابنك دلله، وغص في آلام القرى، ولملم ما تبقى لك، فما الشعور إلا رذاذ حدسٍ، شفافٍ أنيقٍ، زجاجي الغلاف أو هلامي، يثني عليه الحس بشريطِ لاصق يسمى التشافي، فهل التشافي شيء يُقص؟ وهل الحديد يقوى على الترف؟ تتساءل الحواس وتهدي باليد الصاغرة مقص بيسوا، فيا سندي قِص، لعلّك بذلك تشفى من بعضِ بعضكَ المشحون بالحكاياتِ والجنيّات والغبار الذي يتطايرُ في أرجاء نفسك وكتابك.

التشظي في الشخص

اكتنز الحضور في الصفحات، وتوالت الأدوار بوله العابر شلال حزن، الملمح واحد مهما اختلفت الوجوه، فالجبين غار فيه نهران وحفنة من الروافد، والجسد قاسٍ كقلب ثكلى اعتلاه الفولاذ، السمرة متعاقدة والشمس في استهلاك ما تبقى من الجلد، أما العمر يأتيك كطفل يشق النباهة على مقصلة الرأي حينا، وحينا كشاب يفلق صدر الشكيمة ويصبها فنجان قهوة في استنصار الطالب، والزاهد المعتكف النفوس تراه في الطفل والشاب مستخلص الهِداية، وفي الشخوص المترامية على أطراف عباءته، فالعابرون عابرون بخناجر أو دونها، وكأني في استحضار ما يحضر من شعر قديم، أستطيعُ الاقتراب من معنى لم أستطع توضيحهُ "يحيل دهري أصحابي وإن ندروا/ عدىً لهم في دمي من حقدهم ولع/ الحمد لله أني لستُ ذا برم/ٍ للصحب صدري وللأعداء يتسعُ".

سلالةُ العجاج إذا قرأتها ستشمّ رائحة الدم والغبار، وستلمسُ الغائبين والجنيات، وستجد نفسكَ أحد البدو الذي يجوبونَ البرية في الجنوب، أو أحد الذين أخذتهم المدينة إلى حضنها فتاه فيها

تحضر "فتنة" البدو كتشخيص جمالي، مرية بخصرها الضامر وحرير مشيتها، تمحي المعرفة، وتستأصل الأسى من الجوارح برمشة عينٍ فيها السحر يُبطل والمقام يُحال، تنتشر في النفوس والنصوص، كأنها المنتهى الأوحد وهي كثيرة، كثيرة في الوجود والتعدد لا التكرار، حتى يخيّل لك أنّ كلّ امرأة تتمشى على بياض الصفحات هي" ترف، علامة جمال البدو الفارقة".

الشعور الطاغي

تفور العروق، تتفتق كأنك تصبُ النحاس في بيتِ نمل، وتقطر الزيت الحار في أذنٍ مرمية على كتلة جليد، تتخيل الآه وتشرب رقيك المر مع حروف أ ل م، وفي غفلة يغز في فلقة صدرك الأيمن رمحٌ غير مسنون، بل مسلوب الصقل ومخدوش السحنة، تذرف الشمع السائل من عينٍ وعين أخرى ترى جمهرة الشعور، يرتطم بك "هوبهوب" نقلٍ يحمل بقايا عظامٍ والقليل من اللحم، تتشرذم بين الصور ويقع فوق في النهاية باطونًا مسلحًا بذكرى شخصٍ مال على كتفه الكون وهو يقطف سنبلة ويمنحها لترف، وكأنّ الـ"هوبهوب" هو نفسهُ "جيب" سيروب الأرمني الذي كانَ جيبهُ يخلفُ وراءهُ سحابات العجاج!

سلالةُ العجاج إذا قرأتها ستشمّ رائحة الدم والغبار، وستلمسُ الغائبين والجنيات، وستجد نفسكَ أحد البدو الذي يجوبونَ البرية في الجنوب، أو أحد الذين أخذتهم المدينة إلى حضنها فتاه فيها.