26-ديسمبر-2023
ممدوح عدوان وكتابه تهويد المعرفة

ممدوح عدوان وكتابه تهويد المعرفة (الترا صوت)

يستكشف الكاتب السوري ممدوح عدوان (1941 – 2004) في كتابه "تهويد المعرفة"، استكشافًا للآليات التي تستخدمها الحركةالصهيونية لاحتكار الرواية العالمية والتأثير في وجهات النظر. كما يكشف كذلك الجهود المحسوبة لتشكيل الوعي الجماعي، وتقديم "إسرائيل" بوصفها نموذجًا للقيم الغربية. ويتجاوز استكشاف عدوان التحليل التقليدي للحركات السياسية إلى الغوص عميقًا في مجالات علم النفس، والأيديولوجيا، والسرد العالمي. 

ليس كتاب عدوان مجرد كتابٍ آخر عن احتلال فلسطين، وإنما هو كشف عن استعمار العقول، إذ يعرض فيه الاستراتيجيات المعقدة التي تستخدمها الصهيونية، ليس فقط كحركة سياسية تدافع عن "وطن يهودي" وتلغي حق الفلسطينيين في أرضهم، ولكن كحركة صانعة للوعي العالمي. ولذلك كان لا بد من تناول لغز تمكّن الصهيونية المتجذّرة في اليهودية، من التصالح مع الغرب المسيحي بعد تاريخ طويل من العداء.

يكشف ممدوح عدوان في كتابه الاستراتيجيات المعقدة التي استخدمتها، وتستخدمها، الحركة الصهيونية للتأثير في الآخرين والسيطرة على عقولهم

يرى عدوان أن السيطرة على العقل الأوروبي الغربي تُرجمت إلى سيطرة على العقلية العالمية لأن عقل العالم، سواء اعترفنا أم لا، صار عقلًا غربيًا على اعتبار أن الغرب هو المهيمن على مقدرات العالم، والأهم: أفكاره.

وكان التحدي الأول الذي واجه المجتمع اليهودي في سبيل السيطرة على العقل الغربي، هو الاعتقاد المسيحي الراسخ بأنهم "قتلة المسيح". ولذلك كان هدفهم الأول، والأساسي، التغلب على الكراهية الموجهة نحو أسلافهم بسبب هذه الجريمة. واللافت أن اليهود اجتازوا هذه الأزمة ببراعة، وحصلوا على فتوى من البابا نفسه تبرئهم من دم المسيح، وصار يُوصف من يذكر هذا الأمر بأنه "معادٍ للسامية".

نتج عن هذه المناورة الإستراتيجية حملة مضادة أعادت تعريف المسيح نفسه على أنه يهودي، وأعادت كذلك تشكيل التصورات التاريخية المرتبطة به، إذ لم يكتف اليهود بمجرد التبرئة، بل شرعوا في تلاعب سردي أكثر طموحًا للتأكيد على أن المسيحية ليست ديانة سماوية متميزة، وإنما فرع خارجي مستمد من اليهودية. لقد تجاوز هذا التلميح مجرد الدعوة إلى التعاطف، وطالبوا بالاعتراف بأن اليهودية هي الأصل الحقيقي للمسيحية.

ومن خلال مواقعهم الأكاديمية، تسلل اليهود بشكل استراتيجي إلى الموسوعات العلمية الكبرى، وقاموا بمراجعة وتعديل المعلومات المرتبطة بهم لخدمة هدفهم المتمثل في تطهير التاريخ اليهودي من كل شائنة، فأي حدث كان دورهم فيه غير محمود، تمت إعادة النظر فيه إما بنفي هذا الدور تمامًا، أو بتبريره.

أما الاستراتيجية الثانية التي اعتمد عليها اليهود، فقد صاغها عدوان باسم "سرقة العبقريات"، وتقوم هذه الاستراتيجية على نسب العلماء والمشاهير في كل المجالات إلى الديانة اليهودية. ولم يؤثر هذا على التصور العام فحسب، بل أدى أيضًا إلى حشد الدعم للقضية الصهيونية، ذلك أن الهدف من هذه الروايات كان إنشاء تراث فكري مشترك، وتزييف تاريخ من التأثير والثقافة والعبقرية. يقول عدوان حول ذلك:

"هم يُطلقون الرأي. وليس عليهم الاثبات. بل إن على الآخرين أن يثبتوا العكس. وهم ينطلقون من مبدأ شبيه بمبدأ التشنيع و"الحكي على الناس". إذ المعروف أنه يكفي أن تقول إن فلانة سيئة السلوك حتى يتداول الناس هذه التهمة. ثم تقضي المسكينة حياتها كلها في السعي لنفي التهمة.

وهذا الأسلوب بسيط. يُطلِق يهودي ما في موقع علمي أو أكاديمي رأيًا مرتجلًا، ولكنه مقصود وذو هدف. فيتلقاه آخر ويردده على أنه رأي علمي منقول عن العالِم. ثم تشتغل الماكينة الإعلامية لتعميم القول ونشره بين الطلاب والمتعلمين غير المتخصصين. فيتحول إلى مُسلَّمة".

ومن ضمن هذه الادعاءات، ادعائهم بأنهم بُناة الأهرامات المصرية، وأن كريستوفر كولومبس موّل القسم الأعظم من رحلاته عن طريق مستثمرين يهود، بل وصل الأمر إلى حد القول إن أحد أبويه كان يتحدر من أصل يهودي.

وبجانب ذلك، بذلت "إسرائيل" جهودًا كبيرة لاستضافة شخصيات مؤثرة في وقتها مثل شارلي شابلن الذي دُعي ليصبح مواطن الشرف اليهودي الأول في دولة "إسرائيل"، لكنه رفض، بل رفض كذلك هجرة اليهود إلى فلسطين.

أما الاستراتيجية الثالثة، كما أوضح عدوان، فهي "احتكار المآسي"، حيث تُصوِّر الصهيونية الشعب اليهودي على أنه ضحية أبدية، وتؤكد على معاناته التاريخية بينما تقلل بل وتنكر مآسي المجتمعات الأخرى، مثل السكان الأصليين في أمريكا الشمالية، بهدف جعل مأساة اليهود وكأنها المأساة الإنسانية الوحيدة. ولا تزال المحرقة، حتى الآن، أداة قوية لحشد التعاطف والدعم على المسرح العالمي.

لا يقتصر الاستعمار الصهيوني على احتلال الأرض فقط، بل يمتد ليشمل إبادة التاريخ ومصادر المعرفة

ولم تكتف بذلك، بل استغلتها لاستنزاف الأموال والمساعدات الألمانية والأوروبية، والوقوف ضد من يُشكك في أرقام الضحايا مثل الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي. ويقول عدوان إنهم، بوصفهم شعب الله المختار، يحبون العيش مع فعل التفضيل "أفعل"، أي أن يظلوا: "أصحاب (أكبر) عبقرية وأموال، و(أقوى) دولة، وفي الوقت ذاته أصحاب (أكبر) تيه و(أشد) عذاب و(أكبر) مجزرة و(أفظع) مأساة".

تدفع تأملات ممدوح عدوان حول تشويه الروايات التاريخية والتلاعب بالمعرفة، إلى للتدقيق في الروايات التاريخية المنتشرة، والشروع في رحلة نقدية تتحدى الروايات السائدة وتشكِّك في صحة المعرفة التي يستهلكونها. فالتداعيات الأوسع لهذا الاستعمار الثقافي والفكري، كما يقول عدوان، تمتد إلى ما هو أبعد من خسارة الأرض لتشمل إبادة التاريخ ومصادر المعرفة، فهي معركة من أجل السيطرة على السرد والتعليم وتشكيل وجهات النظر العالمية.