06-أغسطس-2015

جنود لبنانيون خلال إشكالات دامية بين طلاب جامعة بيروت العربية عام 2007 (Getty)

تستكين ثلاث كافتيريات متلاصقة في آخر الزاروب المتفرع من شارعٍ ليس رئيسيًّا. الكافتيريات هي محال تجارية في الأصل، والزاروب هو زاروب الآداب، حيث تتوزع المباني التي تدّرس الفلسفة والتاريخ والترجمة والتعريب، وطبعاً الآداب، لطلاب الفرع الأول في الجامعة اللبنانيّة. مبانٍ متهرئة لطالما شكا الطلاب منها على دفعات. كل دفعة تأتي كانت تشتكي من المباني، قبل أن تشتكي لاحقًا من المناهج، وتحافظ على شكواها الأصليّة من الصفوف وقلة التجهيزات.

التجهيزات المتوافرة هي رايات الأحزاب المسيطرة وملصقاتها الدعائية. رغم ذلك الشارع حميمي وتسيّجه أشجار جايلت حروبًا بيروتيّة كثيرة. أشجار ترفرف للنسيان. هنا مرّ الجيش السوري ذات يوم، وهنا سقطت قذائف العماد ميشال عون أيضًا. لا شيء يفسد الهدوء في الشارع الخلفي الآن إلا التصدعات الواضحة في الشقق السكنيّة، والتي تجعل منها مبانٍ عابسة على نحوٍ لا يترك أي مجالٍ للشك. عابسة ضدّ ذاكرتها. في هذه المباني، التي أعدت لتكون شققاً سكنيّة، تقع كليّة الآداب. مقابض الأبواب مقابض لمنازل، الشرفات رحبة، والمصعد لأربعة أشخاص فقط، في مجمل المباني التي تشكّل معًا "كليّة". وإن كانت المباني الدراسية على هذا النحو، فكيف تكون "الكافيتيريا".

هنا مرّ الجيش السوري ذات يوم وهنا سقطت قذائف العماد ميشال عون أيضًا

لولا الملصقات الحزبيّة الوافرة، والشعارات الدينيّة أخيرًا، لظن العابر أنه يمرّ في حي سكني، وتساءل عما يفعله جميع الشبان والشابات في الطريق وفي المقاهي، التي تسمى بكافتيريات، وهي ليست كذلك إطلاقًا. إنها استراحات داخل محال أعدّت لتكون متاجر، وأشبه باستراحة المنطقة كلها من الحروب الطويلة. حاجز الجيش اللبناني الذي استمر طويلًا على مدخل الزاروب، لجهة مدرسة مار مار الياس بطينًا، قرب مخيّم مار الياس لللاجئين الفلسطينيين، يدل إلى استمرار الحروب هو الآخر، ويدل إلى وجود نقاشات حامية، داخل الكافيتيريات. إذن، العرض متواصل.

هنا تبرز ملاحظتان أساسيتان. الأولى، هي اسم المدرسة الأورثوذكسيّة الذي حافظت عليه، رغم أن "مار الياس" المنطقة، بالمعنى المتعارف عليه لبنانيًّا، انتقلت صعودًا إلى ما بعد مفترق "ثكنة الحلو". غير أن المخيّم القريب من الجامعة حافظ على اسمه الأول. الملاحظة الثانية، هي عدم وجود طلاب فلسطينيين بأعداد كبيرة في كليّة الآداب، إذ يفضّل جزء كبير منهم الدراسة في جامعة بيروت العربيّة القريبة، التي تقع في طريق الجديدة، وهذا تاريخي ولا علاقة له بالشرخ الديموغرافي أخيراً في بيروت. لكن الشرخ الديموغرافي ليس حادًا إلى تلك الدرجة التي تظهر في ساعة الاحتقان.

بائع الصحف الذي يفترش المستديرة بمجلاته وجرائده الملونة لا يكترث لأي تقسيمات افتراضية. لم يعد ناشطًا كما كان من قبل. المستديرة حيوية، قرب تمثال حبيب أبي شهلا، وهو من "رجالات الاستقلال" ويمكن الجزم أن معظم الطلاب لا يعرفونه ــ على الهامش، "رجالات الاستقلال" مصطلح ذكوري بالدرجة الأولى، وتاليًا هو منفّر ــ الطلاب الذي يتوزعون بين طلاب الإعلام إلى يسار بائع الصحف، وطلاب الآداب إلى يمينه. يقول إن قلةً تشتري الصحف اليوم، فلدى الطلاب هواتفهم. الرجل لا يعرف عملًا آخر، وهو بذلك ما زال يزيّن المنطقة بألوان المطبوعات، حتى منتصف النهار، قبل أن يستسلم، ويعود أدراجه لتسليم ما تبقى معه، وهو كثير. وإن دل هذا إلى شيء، فهو يدل إلى أن الطلاب كانوا يقرأون أكثر، أو أن الصحف كانت تستحق القراءة. يحتاج الأمر إلى دراسة، تمامًا كدراسة ذلك اليوم، في كلية الآداب، يوم دوى انفجار ضخم، في وسط العاصمة. 14 شباط/فبراير، عودُ على بدء.

يسيطر حزب الله وحركة أمل على الجامعة وعلى مجلس طلابها المعطّل منذ خمسة أعوام

رويدًا رويدًا اتخذت الكافتيريات في الجامعة شكل البلاد. الشرخ الديموغرافي بدأ في كافيتيريا الآداب 1، ذات يوم في شباط/فبراير 2005، عندما اغتيل الرئيس رفيق الحريري. لم يكن شرخًا قاتلًا، لكنه كان سرطانيًّا، وتمدد كبقعة زيت. صار في الآداب كافتيريا لحركة أمل. كافيتيريا "مقرّبة" من حزب الله. وكافيتيريا بصبغة شيوعيّة ــ اشتراكيّة، مستقلة، للجميع تقريبًا. عمليًّا يسيطر الحزب والحركة على الجامعة وعلى مجلس طلابها المعطّل منذ خمسة أعوام. ثمة أزمة مع الطلاب السوريين أيضًا، بحيث تسن قوانين يعتبرونها ضدّهم، في مواد أساسيّة كالتاريخ وغيرها. وثمة أزمة بشأن المناهج وأزمة الماستر والنظام التعليمي الملتبس على الطلاب.

بيد أن ما يلتبس عليهم فعلًا، يتدوالونه في الكافيتيريا. في المقاهي الصغيرة المسماة كافيتيريا. مهلًا، نحن نتحدث عن ثلاثة مبانٍ أشبه بمجمع شيّد على الطريقة الاشتراكيّة في العمارة. المبنى الأول خليط من الفلسفة والآثار وهو عرفًا المبنى الرئيسي. وتحته تحدث تجمعات ونقاشات حامية. شعارات تحرير فلسطين والقضاء على داعش تطلق من هناك.

حرم الجامعة هو الكافيتيريا إذن، كافيتيريا الواقع. إنه أكبر كافيتيريا، وهو مستباح. عدد الطلاب السوريين كبير في الجامعة، لكن أصواتهم لا ترتفع كثيرًا. قبل بضعة أعوام، منعت إدارة الجامعة الحديث في السياسة، لكن ما العمل في الكافيتيريا الضخمة، أي حرم الجامعة، والحرم هو الزاروب، الذي تبعث منه روائح رطوبة قاتلة. السياسة ممنوعة. في البداية راق الطلاب أن ينقسموا بين مؤيد ومعارض للنظام في سوريا، لكن سرعان ما مُنعت السياسة تماماً، ورفعت لافتة على أحد جدران الكليّة، تقول: "تحيا سوريا الأسد"، من دون أن يجرؤ أحد على إزالتها!