04-يونيو-2017

كيفورك مراد/ سوريا

  • إلى سنوات 1988- 1992.. إلى نهرٍ من الورق، قرب المقبرة

 
تقديم
 
ككل المذنبين يطلبون أمّهاتهم، أطلب أمّي
أبحث عنها في عيون كلِّ امرأة. تحنو في لحظةٍ عليّ
كآخر غريبٍ تائهٍ في محطّة الترام..
تعيدُ له الحياة بقمح عينيها. وبالماء.
ككلِّ المتعبين يحتاجون النّساء، أحتاجكِ أُمًّا
لوقتٍ أشدًّ طولًا من الصُّدفة.. أكبرَ من سُنن الحياة.

 

"إن شاءات"
 
أردتُ
حينما كنتُ طفلًا في الرابعة
ألا أخاف من كلاب اللّيل.
وألا يكون شُبّاكنا المُطلِّ على الحارةِ
مطليًا باللّون الأزرق القاني
ليس يعكسُ دفئنا "في الشّتاء" للمطر.
 
أردتُ
ألا أرتعد من نظرة أخي الأكبر
وأن لا يكون قلب والدي بكلِّ هذا الحنوّ
يتّسِعُنا.. لنضيع دونه.
وألا أعتمد الكذب مفتاحًا لأبواب الحياة،
أن تكون الحقيقةُ مختصرةً برائحة العراتليّ.
 
أردتُ
.. في السابعة من عُمري
ألا أمارس اكتشاف الوجود في الظّلام
بين بيتنا وجيراننا، وألا ألتفتَ خوفًا
حين يقول ابن الجيران لي:
بأنَّ أمهاتنا وآباءنا يمارسون الجنس في اللّيل
"دون عِلمٍ منّا" تحت ستار العيب والحشمة
وأن لا أشعر بالمهانة، وبأنّني استثناء.
 
أردتُ
أن أعترف بأنّي كُنتُ خائفًا دائمًا
ولم أرغب
وبأنّي كنتُ كاذبًا فاشلًا
ولم أرغب.. لكنّني حاولت
وبأنّني كنتُ حلوًا في عيون ابنة الجيران
ولم أذكر لها مثلًا.. أنّني لا أهوى الوجوه المُثقلة بالزّعتر البرّي
وظنّتني خجولًا.. ليس أكثر
وبأنّني كنتُ أحلمُ بأن أصير في أحد الأيّام نملة
أفهم سرَّ الإختباء
وأن أرى ولا أُرى
وأن أسمع ولا أُسمع
كجدّي خليل "أول تشكيل للإله رع في أرض كيليكية"
وأن أمارس المشي دونما حذاء
وأنهمر بمنتهى الصدق قبلةً طفلة على خدِّ الأنسة دلال
لأنّني وأنا ابن سِنِّ العاشرة
أحببتها ورغبتها حُلمًا في دهاليز انفصامي.
كانت أوّلَ من تمّرنتُ أمامها على قول كلمة "بحبّك".

أردتُ
أن أعترف
أنّني صدّقت نشيد البلاد والأغنيات البطوليّة
وحفظتهُ كدستور السّماء
ومسرحيات الماغوط ودريد ونهاد
ردَّدتُها بمنتهى الصَّوت
حتّى صرتُ مجنونًا في افتداء القضيّة
وماهرًا في الهرب
بعد أوّل حملةٍ عسكريّةٍ.. تطلبني
خائنًا.. للسَّادة الحُمر
بعت سروال النبيين لأشتري ضحكةً لفتاةٍ
أضاءت روحُ والِدها سماء الحَرب
تنتظرهُ بكامل الشّمس والعيد.

أردتُ
أن لا يختفي إخوتي فجأةً
في أقبية الدولة
وأن لا أرى مكابرة أمّي على البكاء
أمام زوجاتهم وأطفالهم
تمتهن طبخ الأمل
بقِدرِ احتراقاتها المليار.
 
أردتُ
أن أبتسم لكلِّ الماركسيين
أنّهم حمقى..
لكنّني أحببتُ يومًا صدقهم
ورأيتهم جيّدين مثل "حنّا السّكران"
فأخذتهم إخوة رغم اختلاف ميثولوجياتنا.

أردتُ
ألايكون مسلسل رأفت الهجّان مرتبطًا دائمًا بخط بارليف
بل بإستير بولونسكي.
وأن لا تكون مقرّرات كتب القوميّة مرتبطةٌ تمامًا بجوزيبّي مازيني وميشيل عفلق فقط
بل ببؤس البلاد من بعدهم
وأن لا يخون "الإخوان المسلمين" أنفسهم
وألّا يروح أخوالي ضحيّة هذا الغباء
وأن تحصل العائلة على جثث الضّحايا
بعد ثلاثين سنةٍ.. على سبيل الأمل، من مقاصل صيدنايا
وأن يُدفنوا على الطّريقة الكرديّة..
"كان ممنوعًا علينا بأن نعيش على الطّريقة الكرديّة، والقوميّة الكرديّة"
ولهذا فضّلو الموت في سبيل الدّين والإخوان.
 
أردتُ
أن أقول لكلِّ الرّساميين الكلاسيكيّين
بّأنّني لا أفهم جنونهم في عشق الإنسان
ولكنّ الجّنون يعجبني
أراهُ طبيعيًا..
فيصبغني، ولا أشبههُ إلّا بأنّني أزرق
وبأنَّ الماء صاحبي حتى الغرق، لا الإنسان.
 
أردتُ
بأن أكون بوهيميًّا كما أريد
وأرفض ربطي ببوشكين
وأن أكون الأخ الكبير في خيالات جورج أورويل ولا أقتل أحدًا
بل أوزّع القمح في نشرة الأخبار
وأوجّه كل الكاميرات لتصوّر مشهد القمر،
صورةً بانوراميّة من الشبابيك المظلمة
وأن أنشَدِهَ أمامَ تمثالِ موسى
كأي مبروك
وأردّد:
الأنَ.. هيّا قُم  ياموسى
ولا يُكفِرَني الرّبابنة
وأصلبَ نبيًا لم يفهم إيحاء الحجارة في الخلود.

أردتُ
أن أعترف بانّني لازلت مصابًا بداء المجتمع الغبي
والحنين الغبي والبكاء الغبي
والرّكض خلف السّراب
ونسج الأمنيات على الأسلاك الشائكة. 
 
أردتُ
أن أهمس في آذان أصدقائي
كلّكم حمقى..
 
ولا يرتدُّ الأثر.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

أيام ذابت على رؤوس أصابعنا كرغوة الصابون

ابن اللّيل