04-مايو-2018

مستغانم 1940

ما أقسى لحظات رفض الحبيبة باقة أزهار الحبيب في عيد ميلادها. كم من مزهرية سخرِت من الزهور المهداة إلى النساء. الأنثى ترضى بالمعدن الأصفر والحجر الأخضر والأزرق ولو كانت بحجم نملة، ولكنها في المقابل تستصغر الزهور التي تنتقيها أنتَ بشق الأنفس في مدن جزائرية طغى الإسمنتُ على النبات، والحجر على الشجر. بل ستحتقر إن تجرأت على إحياء الجنائن وإهدائها الحدائق المعلقة لبابل.

جلب لها واسيني زهرة نادرة من آسيا الغربية اسمها "نزيف الدم"، وكم كانت نذر شؤم على خريطة أحاسيسه. وأجهد نفسه أيضًا على شراء زهرة الأوركيد البنفسجية والتوليب الصفراء والزنبق الأبيض والسوسن الأرجواني والجربالة البرتقالية. إنها هزيمة قوس قزح أمام السمراء. سقط قناع الحب يا درويش على محراب الأشواك. فهل من منقذٍ؟

قالت له ذات يوم مطرٍ أمام مدخل السوق المغطاة، قبل امتطائها الحافلة المتوجهة إلى أعرق الأحياء، تِجْدِيتْ:  

- أريد رجلًا يعبد صمتي. 

- لماذا يا هالة؟

تساءل واسيني وهو يمشي بخطى عبثية في زحمة شوارع وسط مدينة مستغانم ذات الست والعشرين شجرة فيكوس. المدينة التي تداعب البحر المتوسطي منذ الأزل. توقف واسيني عندما وصل إلى دكان صغير لبيع الكتب القديمة ليجده فارغًا من الزبائن المفترضين، الذين يتسكعون كعادتهم طوال النهار في المقهى المقابل، الملبد بدخان السجائر المتراكم والمليء بالكلام الفارغ! لا شيء سحري يجذبه إلى المقاهي، قِدرة الأقاويل والثرثرة وزهق الوقت وتحنيط ضمير الكِّد. أينما غابت الورود، لا أريكة مريحة للجسد. سلّم على صاحب المكتبة العريقة، الحاج بن دهيبة، ثم همّ بتصفح الكتب المصفّرة التي تعاقب عليها عدة قراء من قبل.  اندهش واسيني من تنوع العناوين العربية والفرنسية التي قاومت عرق الإنسان رطوبة الزمن، من روايات نجيب محفوظ المنشورة من طرف "دار القلم اللبنانية" ومجلدات "ألف ليلة وليلة" باللغتين، إلى كتب الأساطير الإغريقية والتاريخ الجزائري الأمازيغي الإسلامي، وحتى كتاب عن "الكاماسوترا" الذي توسط كتب ألفريد هيتشكوك ومجلدات تفسير الأحلام في الإسلام! أخيرًا وجد الكتاب الذي كان يبحث عنه: "تاريخ مستغانم" للمؤرخ المولود في مازونة، مولاي بلحميسي. دفع الثمن مبتسمًا، ثم خرج وسلك الطريق المنحدرة المحاذية لجامعة مستغانم والمؤدية إلى موقف سيارات الأجرة لصلامندر البحرية.

عند نزوله على مقربة من البناية التي يسكن فيها، اشترى واسيني خبزتين من مخبزة "القدس" وبعض الخضروات وفاكهة الماندرين الموسمية عند "عمي خالد" وأحشاء الدجاج عند الجزار المزابي محمد.

داخل شقته المطلة على البحر الهادئ، طها طعامه ثم تناوله بنهم. نافذة المطبخ دعت نسمات البحر لتتقاسم معه الغذاء. أثناء تقشيره الماندرين برقت في ذهنه صورة هالة وهي تناوله حبات الرمان القرمزية في وادي الحدائق، بعيدًا عن نفايات المدينة المتربصة بالرياح في كل فج عميق وعن بقايا الرصيف المتواصل الترقيع. واسيني يفاجئها دائما بفاكهتها المفضلة: توتة العليق. كم كانت تشتهيها إلى حد الجنون والنرفانا، وتشعرها بنشوة حيوية هي وحدها تستمتع بها والتوتة تتدافع على شفتيها السخيتين لنيل حلاوة لسانها الموعود. حان وقت الرحيل بعيدًا عن شظايا الصمت الرهيب الذي فرضته هالة عليه. لم يعد يحتمل دور الصنم أمام وثنية حبها. نهض واسيني من الطاولة المربعة لغسل الأواني بماء فتر. أمام مرآة حمامه، تخيّل هالة وهي تعقص شعرها الكستنائي اللون داخل غرفتها في "تجديت"، تحلم في حبيب لن يرسو في مرفئها، لأنه أهدى قلبه لظلمات البحر البارد، كحنكليس الشاطئ الذهبي الذي طالما قال إن أشواك الصبار أحنّ من مشطها المتكبر. اتَّهمته هالة بالتحرش الزهري في أول يوم نيسان! سيغادر مدينة سيدي لخضر بن خلوف بعد أسبوع. هواء المدينة بدأ يخنقه. لن يودعها، سينصرف بصمت، عابدًا منارة تكبّرها. واسيني سيودع فقط والده في نقمارية وإخوته المشتتين بسبب قرص الضغيف.

كم كان عذابها له على حافة الهولوكوست المعنوي. خلال الأشهر الماضية، لم ترد على مكالماته المتكررة صباح مساء، وحتى رسائلها النصية شحيحة الكلمات إلى حد الخيبة التي قرصنت قلبه وجعلته حبيس الأقبية الداجية. لم يعد واسيني يطيق تصرفاتها: رفضت هالة كل دعواته لتناول الغذاء في مطعم الأكلات البحرية "بنوراما" في العرصاء، المطل على حيها "تجديت" بأعالي مستغانم، بحجة خوفها من عائلتها، و"لكن كم كانت الصدمة كبيرة عندما كتبت له رسالة نصية قصيرة تُعلمه بأنها في رحلة سياحية إلى بجاية! آه، يا واسيني. جاء وقت حرق الغيرة في مغارات "الفراشيح" بأولاد رياح بنقمارية، أين أحرق العقيد الفرنسي "بيليسيي" أجداده العزل، بدوابهم وأنعامهم وزادهم، بدون رأفة أو شفقة ذات 18 حزيران 1845. محرقة بأثر رجعي قد تشفي غليل واسيني الجريح غدرا. قبل سفره، سيترحم على أرواحهم، واعدا نفسه وهو جالس على الصوفا الخضراء يشاهد قنوات نقل الخراب العربي على المباشر: مضحكات مبكيات سلالات التشبث بالعرش حتى ميقات النعش. ولتذهب الشعوب العربية المثبطة والمرتشية إلى حمم إِتْنَا تنتظر تجمدها الخرافي. الذهب الأسود المتدفق من أعماق الصحاري هو واقية الخلفاء العاشقين للقذف الرديء ضد مرض فقدان الكرسي غير المستحق!

طبعًا، بعد عودة هالة من "يما قوراية"، بعثت لواسيني صورها على شاطئ "تيشي" الساحر ومغارة "أوقاس" العجيبة بصواعدها ونوازلها. ودّعت أهلها متحجبة في ثوب الاحتشام واستمتعت برحلتها متبرجة في بيكيني الاستجمام! البعد عن الأهل والأعين المنافسة للسكانير تحرر المرأة من قيود لباس الواجهة، وهذا ليس بغريب في مجتمع لا زال ينقّب عن هويته التي ما فتئت تتناثر فوق صفائح التيه المتصادمة، حصيلة حتمية  للغزاة المتعاقبين على إتيان حرث الجزائر مجانًا. بهتانًا.

يومين فقط بعد رجوع هالة من بجاية، التقى بها واسيني صدفة على الرصيف المحاذي لضريح الباي بوشلاغم، أعلى حي "المطمر" العثماني الإرث. كانت ترتدي خمارًا أسود وسروال جينز أزرقَ مناسبًا جدًا إلى حد الإبراز الصريح لإليتها السريعة الالتهاب! اكتفى واسيني في ذلك الصباح المشمس بسروال أسود وقميص كرزي داكن ذي كمين طويلين. كانت محرجة ولكن قال لها:

- صباح اللوز يا هالة. ها أنتِ!

- كيف حالك يا واسيني؟

- بخير. أنا متأسف لوجودي في طريقكِ. لا تقلقي، فأنا ماضٍ إلى سفري، إلى قاع ذاكرتكِ.

شعرتْ بشيء ممزوج بين الندم والحرج. ثم قالت له بصوتها الرقيق الأنثوي:

- هل ستغادرنا؟ وعملكَ؟ من سيدرس الألمانية في الثانوية؟

- لا مكان لي في هذه المدينة. لا حاجة لهم للغة أجنبية ما عدا الفرنسية. سأحلق إلى أرض أنجيلا مجددًا، أين قلوب الأصدقاء أدفئ من شمس بلادنا.

لم تع ماذا كان يقصد. أهل هي امرأة أجنبية ارتبط بها مؤخرًا؟

ارتبكتْ. ربما لإرغامه على العدول عن رأيه المفاجئ لها، قالت:

- إلى هذا الحد تنفر من مدينة مستغانم؟

-انتهى موسم التدريس. مهد حناني في نقمارية.

- وماذا عن هوايتك في الكتابة المسرحية يا واسيني؟

- بيروقراطية أطنان الوثائق هي أكبر مسرحية يومية في الجزائر. لا منافس لها. ركح بمليونين كيلومتر مربع، ولا أروع!

لم يقدر واسيني على تأمل عينيْ هالة الكستنائيتين. لم يعد يهمه سحرها ودفأها. قرأ في إحدى الكتب العربية أن أصحاب العيون الكستنائية يفيضون بالعاطفة والحنان ولكنهم ليسوا ذوي الشخصية القوية. بالطبع، واسيني لا يؤمن بتلك الخرافات اللونية. وهالة نقيض تلك الخرافة.

- فيم تفكر يا واسيني؟ عيناك تبدوان هاربة إلى الغموض.

بقي واسيني ساكتا لثوانٍ، محاولاً تفكر عن ماذا تدل عينيه البنيتين. نعم، أصحابها لهم قدرة خارقة على الحب تارة، والكره تارة أخرى، ولكنهم طيبون ويعشقون الفنون ويتأثرون كثيرا بما يحاط بهم. وهل هو كذلك، فعلا؟ وحسب دراسة تشيكية نشرت في المجلة العلمية الافتراضية " بلوس وان" فإن ذوي العيون البنية أكثر الناس أهلا للثقة والطمأنينة، وأفواههم كبيرة وذقونهم عريضة نوعًا ما. ولماذا هالة لا تثق في حب واسيني لها؟ ولو مرة أخطأت وقالت له أحبكَ.. دائمًا تتخندق في إجابات خشبية ومحيّرة مثل: "لا أدري...أنا أعرف أحاسيسي... أنت تعرف أحاسيسي... قلبي يعرف لمن ينبض... الغيرة تؤرقني...".

أحيانًا، ينتاب واسيني حدس يقول له: "هالة تلعب بالحب كسباق الخيول، لا تدري على أي حصان ستراهن قلبها الخفي. الفرسان على أشكالهم يفوزون كلهم. لا غالب ولا مغلوب. فصهيل الجياد واحد، ولهاث الشبق نفسه".

صمت. يسرق نظرات إلى صدرها السخي في حضوره. وهي تمعن في أزرار قميصه، تلمح إلى بعض شعيرات سُجاد الحب.

- أنتّ دائمًا تفكر؟

- إذًا أنا موجود، كما قال ديكارت. هل تلاحظين وجودي فعلًا؟

- لا تخطئْ فهمي يا واسيني. تفهم ظروفي! رجاءً.

- ومتى كان للسكوت فضيلة في الحب؟ أترين، حتى لقاءاتنا من نسج الصدف فوق أرصفة مكشوفة. كالغرباء نحن هنا.

- أخاف أن يراني أحد من عائلتي معكَ في الأماكن المغلقة. ألسنة مستغانم لا ترحم المرأة.

- يا سلام، عليكِ. وهل المطاعم تعتبر مواخير؟ وماذا عن ذهابكِ إلى بجاية حرة طليقة؟ كنتُ آخر من علم بذلك. تقطعين المسافات لرؤية الأماكن البعيدة، وترفضين في المقابل أن نجمع رأسينا على طاولة واحدة على بعد قُبلة. لمسة. هوس.

أحست هالة بغصة في حلقها. أصابعها داعبت محفظتها الحمراء باضطراب. جرأته تسربت إلى وجدانها رغم مقاومتها لذلك الشعور. رجل يحللها ويشرّحها بلا هوادة يستحق فرصة على الأقل. لا تدري لماذا تذكرت في تلك اللحظة أغنية "تغيرتْ كثير" لجوليا بوترس.

- متى ستترك مستغانم؟ وإلى أين؟

- الأسبوع المقبل. مدينة دوسلدورف، ألمانيا.

الآن فهمت أن أنجيلا كان يقصد بها رئيسة وزراء ألمانيا، أنجيلا ميركل. مجرد تفكيرها في بلد الشقراوات أوقد نار غيرتها المتأخرة. أحست أنها ارتكبت حماقة بتجاهل حبه لها. كل ذلك الولع بها وهي كانت تسبح في بركٍ أخرى.

- ألا يمكن تأجيل سفرك يا واسيني؟

سؤالها حيّر واسيني. السفر كالأجل، رصاصة لا تعود إلى الماسورة.

- آسف يا هالة! قدري يناديني ما وراء البحار. لا أحتمل ثقلي على هذه الأرض.

- هل سأراكَ قبل الرحيل على الأقل؟

- ها أنا أمامكِ. لا وقت لدي بعد اليوم. خذي زادكِ إلى ذاكرتكِ في الحين!

- ألغازكَ عجزت عن تفكيكها. كن مباشرا.

- على المباشر أقول لكِ: لا تخجلي من مفارقتي. أتمنى أن يمنحكِ غيري ما عجزت عنه.

على التو، دمعتان متوازيتان غسلتَا خديْ هالة. "حقًا هذا الرجل لا يشبه غيره. يتقن فن الفراق بأقل الخسائر". في أعماقها البعيدة، أدركت أن صمتها تجاهه خلال الأشهر الماضية قصّت أجنحة حبه، بل نتفته ريشة ريشة، فتناثر تحت مزاج الريح.    

تفكّر واسيني مقولة الأديب اللبناني جبران خليل جبران: "المرأة أرجوحة بين الدمعة والابتسامة". وأما الفيلسوف سقراط فقال في زمان تعايش الأساطير الإغريقية والحقيقة: "تستطيع الشمس أن تجفف مياه المحيط، ولكن لن تستطيع أن تجفف دموع المرأة". الكاتب الفرنسي ألكسندر دوما كان قاسيًا حينما قال: "لا تنخدع بدموع المرأة، فقد دربت عينيها على البكاء". واسيني ودّ لو أسمع هالة ماذا تعني له دموعها في الوقت بدل الضائع: "تناسيتِ دقات قلبي لكِ، فتراكم الغبار حوله. غبار قلبي هو تاجي من حبكِ، فرجاء" لا تبلليه بدموعكِ."  

الدموع على الأم هي الأغلى.  نضبت بئر دموع واسيني قبل خمس سنوات ولا يريد أن يحييها من أجل امرأة لا يمكن أن تعوض أمه مهما ضحّت النساء. كان دائمًا طفلًا صغيرًا طيلة ثلاثة عقود من الزمن، حتى رحلت الأم الغالية فكبُر في لمح البصر عند فقدان أم بصائره.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الحبس بتهمة الضحك

إنهم يموتون وحسب