25-يناير-2019

فلوريس جيسبرس/ بلجكيا

كانت الساعة تشير إلى الرابعة ودقيقتين عندما تحركت الحافلة متجهة إلى وسط المدينة، انقطعت كل وسائل النقل المؤدية إلى هناك، ظلت تنتظر قرابة نصف ساعة ولا وجود لأي سيارة تاكسي يمكن أن تقلها إلى وجهتها.

احتسبت الوقت الذي يمكن أن تستغرقه الحافلة حتى تصل إلى وجهتها، ربع ساعة أو أكثر بقليل في صورة ما كان الطريق مزدحمًا. لن تصل في الوقت المحدد، هكذا خمنت وهي تنظر إلى ساعتها اليدوية. كانت هذه الساعة أول هدية تلقتها منه. قال لها يومها إنها ستحتاجها كي تضبط عليها وقت لقائهما حتى وإن كان أحيانًا متباعدًا بعض الشيء.

لمحت الحافلة آتية، قفزت إليها واتجهت إلى مقدمتها دون أن تكترث بقاطع التذاكر الذي رمقها بنظرة تطلب ثمن التذكرة. ظلت واقفة رغم شغور بعض الكراسي، وكأن فعل الجلوس سيعطل حركتها عندما تنطلق جريًا إلى محطة القطار.

الرابعة وخمس دقائق، كانت قد قطعت ثلث المسافة. الطريق شبه خالية لا شيء يعطل سير الحافلة. فقط لو أسرع السائق قليلًا ستصل مؤكدًا قبل انطلاق القطار بدقيقة أو أكثر. وقت كافٍ لكي تودعه وربما تحتضنه لبعض الثواني.

أغمضت عينيها تاركة المجال لذاكرة نقشت عليها روائح اللقاءات، كثيرًا ما كانت تحتضنه داسة وجهها في صدره فتغزو أنفها رائحة عطره، تغمض عينيها وتستنشق العطر حتى يتخلل ليس فقط رئتيها بل كامل جسمها، فينفتح درج في المنطقة المسؤولة عن الحواس داخل رأسها ويحفظ الرائحة هناك.

الرابعة وتسع دقائق، تجاوزت نصف المسافة بقليل، لن يطول الأمر أكثر لو ضلت حركة المرور على هذه الشاكلة. الطريق شبه خالية. احتسبت المسافة والوقت المتبقيان ولاحظت أنها ستحظى بدقيقة كاملة معه.

لم يستطع سائق الحافلة تجاوز إشارة المرور الحمراء، نسيت أمرها نهائيًا. لم تحسب الوقت الذي يمكن إهداره وهم في انتظار تغير لون الإشارة إلى الأخضر. تسرنمت مكانها مركزة نظرها على الإشارة الحمراء فصارت دائرة اللون تتسع وكأنها بوابة تفتح. حركت رأسها للأمام قليلًا حتى تتمكن من الولوج، وبمجرد ما أن عبرت ذلك اللون حتى وجدت نفسها داخل غرفة. التفتت يمينًا و شمالًا. المكان ليس بغريب عليها، هي تعرف جيدًا هذه الغرفة، هنا كانت تلقاه مرة أو مرتين في الأسبوع على حسب المتاح.

جابت الغرفة باحثة عن شيء ما فقدته آخر مرة زارته فيها، ليست متأكدة من ماهية هذا الشيء الذي تفتش عنه لكنها ظلت تبحث، تحت السرير وفي الخزانة وفي الأدراج. فجأة تعالت أصوات المزامير من حولها وانطلق سائق الحافلة من جديد بعد أن تغيرت إشارة المرور إلى الأخضر.

الرابعة وإحدى عشر دقيقة. محطة واحدة فقط تفصلها عن مكان نزولها. شدت حقيبتها جيدًا على كتفها وتمسكت بالقضيب الحديدي. ستنطلق فور أن يفتح الباب. لن تنتظر فتح الدفتين بل ستنزلق مع  أول مساحة تتيح لها العبور.

مضت دقيقة أخرى، فقط عشرون مترًا أو أقل ربما أكثر لم تعد تستطيع تمييز المسافات. فقط نقطة الوصول هي ما يهمها الآن؛ أن تصل قبل انطلاق القطار.

في الرابعة وثلاثة عشر دقيقة توقفت الحافلة. أخذت نفسًا عميقًا واستعدت للانطلاق وكأنها عداءة في سباق أولمبي خصمها فيه الزمن.

الباب لا يفتح! التفتت إلى السائق مندهشة قائلة "ألن تفتح الباب؟". أجاب بنبرة متكاسلة أن الباب الأمامي معطل لا يفتح. ساعتها فقط انتبهت أنها لم تلاحظ أن الباب قد فتح طوال رحلتها وأن أحدًا لم ينزل منه. انطلقت نحو الباب الخلفي حيث تزاحم عددًا لا بأس به من المسافرين. لم تطق صبرًا ورمت بنفسها عكس تيار الصاعدين آملة في النزول بأقل الأضرار، بعد أن انقطعت حقيبة يدها وظلت وراءها تتلقفها الأيدي إلى أن رماها أحدهم على الرصيف بعد أن تخلص منها بركلة على مؤخرتها.

تعثرت والتقطت حقيبتها وانطلقت في الركض باتجاه محطة القطار، قطعت الطريق متجاوزة السيارات وسط وابل من التزمير. 

تراءت لها المحطة على بعد أمتار قليلة. زادت من سرعتها وما إن وضعت قدمها داخلها حتى سمعت النداء الأخير لرحلة الرابعة وخمس عشرة دقيقة. لمحت بعض المسافرين على عتبات المقطورات وآخرين من الشبابيك يلوحون لبعض الأهل والأصحاب، جالت ببصرها بين المسافرين. من المؤكد أنه ينتظرها مثل آخر مرة، فقد عطل يومها إقفال الباب وانطلاق القطار حتى يراها ويلمس يدها داسًا في كفها قبلة دافئة.

ظلت تبحث بعينين جاحظتين عنه وسط جمع المودعين على رصيف المحطة، لكن دون جدوى، لم تجده بينهم.

جلست على المقعد الخشبي منهكة القوى. ظلت تنظر إلى القطار وعرباته المتراصة الواحدة تلو الأخرى، كانت نظرتها فارغة نحو اللاشيء، بينما كان عقلها يسترجع شريط حياتها بالمقلوب. كان بؤبؤ عينيها يتحرك بشكل متوتر يمينًا شمالًا فوق وتحت محركة جفنيها بشكل متسارع أحيانًا، ثم تجحظ ناظرة إلى العدم.

رآها عامل المحطة من بعيد جالسة على نفس المقعد. ذهب إليها واقتادها إلى كافتيريا المحطة وقدم لها قهوة سوداء دون سكر وسيجارة. تعود أن يفعل هذا كل يوم أربعاء عندما تأتي مسابقة الزمن كي تلحق بالقطار قبل أن يغادر.

 

اقرأ/ي أيضًا:

كأنّ شيئًا ما لن يحدثَ بعد الغياب

اقتفاء أثر الصدى