07-فبراير-2023
منى مرعي وشياطين الدومينو

منى مرعي وشياطين الدومينو

"سارة تختفي من الذّاكرة وتعودُ إليها. سارة تحتلُّ الذاكرة كما لو أنّها ذهبت إلى هناك، إلى هذا العالم الذي لا تعرف نهى عنه شيئًا. تخيّلت فتاتها في اللحظة التي ذابت فيها في سراديب ذاكرتها. تراها تخرج الآن من رحم امرأة أخرى. تتقمّص روحًا أخرى. سوف يُطلقون عليها اسمًا لا يليق بشفتيها ولا باتساع عينيها الكبيرتين".

ليست هذه الكلمات افتتاحية مجموعة منى مرعي لمجموعتها القصصيّة وليست الخاتمة، وإنما مستقاة من المتن. المتن الذي حرصت مرعي على أن يكون محشوًا بنفس القوّة الرمزية لأوّل المجموعة وآخرها. رمز لا يدلّ على موضوع معيّن إنّما يحومُ حول الحرب ويتخذُ منها مرجعيّته ودعامة حكاياته.

الفكرة التي تقوم عليها قصص "شياطين الدومينو" هي حالة تداعي الأحداث ولكن على لسان طفلة. ليست القصص هنا تكرارًا لما قبلها أو لكلّ ما قرأناه سابقًا عن الحرب الأهليّة اللبنانيّة إنّما استمرار مغاير ومختلف

"شياطين الدومينو" ليست المجموعة القصصيّة الأولى لمنى مرعي ولن تكون الأخيرة. فقد عملت الكاتبة سابقًا على ما يُمكِنُ تسميتهُ "installation" كتابيّة في "خارج نطاق الخدمة". هذه الإنشاءات السرديّة تتحوّل في "شياطين الدّومينو" إلى رواية متتالية تخربطُ مفاهيم القارئ ونظرته إلى الأشياء والأشخاص، لا بل إلى نوع هذا الكتاب الذي يقرؤه. هل هو أمام مجموعة قصصيّة؟ هل المتن الذي بين يديه هو رواية؟ هذا الالتباس الكتابي هو بداية تورّط هذا الكاتبة مع عوالم شخصيّاتها التي هي بشكل أو بآخر عوالمها الخاصّة. حتّى ولو كانت قد ذيّلَتْ مخطوطها بأنّ هذه القصّة ضربٌ من ضروب الخيال وأحداثها مفبركة ولا تمتُّ للواقع بصلة.

في حال أردنا تعيين صفة لهذه السّرديّة، يُمكننا القول إننا أمام أحوال تنقلُ مرعي من خلالها ما يشبهُ السّيرة ونشدّد هنا على كلمة سيرة، أو اليوميات التي تترجم من خلالها أفكارًا وهواجس شخصيّة. بمعنى ما، ما يُعرض أمام القارئ هو الذي كان يحصُلُ بالضبط. العينُ التي ترويه هي عين الذي كان يرى في ذلك الوقت، ولو أنكرت تلك العين ما رأته.

الفكرة التي تقوم عليها المجموعة هي حالة تداعي الأحداث ولكن على لسان طفلة. ليست القصص هنا تكرارًا لما قبلها أو لكلّ ما قرأناه سابقًا عن الحرب الأهليّة اللبنانيّة إنّما استمرار مغاير ومختلف. الاستمرار في طرح الرواية للحرب على لسان الطفلة تجعل من بعض القصص، التي هي بعيدة عن ثيمة الحرب نوعًا ما، متضمّنة لهذه الثيمة بشكل أو بآخر أو تبني عليها.

"مشوا أمامه طوال الوقت، ومهّدوا له الطريق كما لو أنّه ذاهب لاستقبال رئيس فصيل حزبي ليجد قذيفة غير منفجرة تنام على تخت والدَيّ. جعلت ثقبًا أنيقًا في الحائط، خسفت الخزانة، واستلقت على السرير، كسرته. نامت دون أن تنفجر".

اللغة الحية التي تقدّمها هذه الكلمات لا تخرج من حيثيّة زمنيّة إلى غيرها، بل تبقى وتتطوّر لتقدّم مضمونها الحكائي، مكتفية بنفسها ومستعدّة لنقل معالم هذا السّرد عبر جمل قصيرة هي ذاتها مشاهد ومتتاليات سرديّة تطول وتتشعّب.

لو أردنا أن نسأل عن موقع بعض القصص التي دخلت في المجموعة والتي لم تحمل ثيمة الحرب لوجدنا أنّ القاسم ما بينها وبين القصص الأخرى هو اللحظة. اللحظة التي توجّه هذه الكتابة لتصير حالة، حالة تعبّر وتصف وتظن وتنفي وتترك أثرًا ليس على الأمكنة فحسب بل على سياق السرد بأكمله. بمعنى آخر، ليس فخًا أن تكتب منى مرعي قصصًا ذات ثيمات متباعدة ومتشابكة شريطة ربطها بخيط الهمّ الذي تحويه وتحمله، همّ لا يخرجُ عن كونه محفّزًا لبنية العمل الذي أمامنا.

في "شياطين الدومينو"، نحن مدعوون إلى سرد متواصل، سردٌ يبعث على الاسترخاء والتذكّر. تذكّر الماضي الذي صار مادّة شخصيّة أو ماركة أو بصمة لمرعي في كتابها هذا. سرديّات مرعي أشبه بترجمات للذكرى أكثر مما هي ارتجالات. ترجماتٌ ترافقُ قارئها نظراتٌ قلقة وقلوبٌ مكسورة وذاكرة لا تتوقّف عن النّزف.