13-أغسطس-2023
بورتريه لـ آرثر ملر

آرثر ملر (الترا صوت)

يُعد آرثر مِلَر أحد أهم الكتّاب المسرحيين الأمريكيين، بسبب التصدي للقضايا المعقدة، كما في مسرحياته: "موت بائع متجول" و"البوتقة". تناول أعماله تناقضات المجتمع الأمريكي والطبيعة البشرية والفردانية، وعُرف بابتكاره لشخصيات احتلت مكانة أيقونية في تاريخ الأدب، والمسرح بشكل خاص. هنا ترجمة لإحدى قصصه القصيرة.


لم يَعُد بإمكاني أن أتذكَّر بالتَّحديد العام -غالبًا 1927 أو 28- الذي حلَّ فيه سبتمبر حارٌّ إلى درجةٍ فاقَت العادة، استمرَّ بعنادٍ حتى بعد بدء الدِّراسة وعودتنا من كوخنا على شاطئ روكاواي. كلُّ نافذةٍ في نيويورك كانت مفتوحةً، وفي الشَّوارع ساقَ الباعة عرباتٍ صغيرةً يُقطِّعون فوقها الجليد ويرشُّون عليه أكوامًا من السُّكَّر الملوَّن لقاء بضع بنسات. نحن الأطفال اعتدنا أن نقفز على الدَّرجات الخلفيَّة للعربات البطيئة المجرورة بالخيول، ونسرق شُطفةً أو اثنتيْن من الجليد الذي حملَ رائحة روثٍ واهنةً لكنه برَّد الكفوف والألسنة.

كان سُكَّان غرب الشَّارع 110، حيث عشتُ، أكثر برجوازيَّةً قليلًا من أن يجلسوا بالخارج على سلالم الحريق، ولكن بعد المنعطف في الشَّارع 111، وعلى مسافاتٍ أبعد في شمالي المدينة، وُضعَت حشايا الأسرَّة بالخارج مع هبوط اللَّيل، واستلقَت عائلات كاملة في تلك الشُّرفات الحديد بثيابها الدَّاخليَّة.

حتى طوال اللَّيل لم ينزَح ستار الحرِّ إطلاقًا. اعتدتُ مع بعض الأطفال الآخَرين أن أقطع الشَّارع 110 إلى سنترَل پارك وأتمشَّى بين مئات النَّاس، من عُزبٍ وعائلات، النَّائمين على العُشب بجوار منبِّهاتهم الكبيرة، التي عزفَت معًا نغماتٍ نشازًا خفيفةً لمرور الثَّواني، مدغمةً تكَّات كلِّ ساعةٍ في الأخرى. في الظَّلام بكى الرُّضَّع، وغمغمَ الرِّجال بأصواتٍ رخيمة، وبين الحين والآخَر أطلقَت امرأةٌ ما ضحكةً عاليةً على شطِّ البُحيرة. لا أتذكَّرُ إلَّا أناسًا بيضًا منتشرين على العُشب، ففي ذلك الحين كان هارلم يبدأ فوق الشَّارع 116.

لاحقًا، في ثلاثينيَّات الكساد، بدا الصَّيف أشدَّ حرارةً. في الغرب كان هذا زمن الشَّمس الحمراء والعواصف التُّرابيَّة، حين ذرَت الرِّيح مزارع يابسةً بأكملها وأرسلَت الأوكيِّين (أهل أوكلاهوما الذين خلَّدهم ستاينبك) في رحلاتهم اليائسة صوب المحيط الهادي. آنذاك امتلكَ أبي مصنعًا للمعاطف في الشَّارع التَّاسع والثَّلاثين، حيث شغَّل نحو دستةٍ من الرِّجال ماكينات الخياطة. مجرَّد مشاهدتهم يعملون على معاطف الشِّتاء الصُّوف السَّميكة في ذلك الحرِّ عُدَّت في نظري تعذيبًا. عملَ التَّرزيَّة بالقطعة، أي إنهم نالوا أجورهم وفق عدد الدُّروز التي فرغوا منها، وهو ما قصَّر وقت استراحة الغداء لتدوم خمس عشرة أو عشرين دقيقةً. جلبَ العاملون طعامهم معهم: حُزمًا من الفجل، وربَّما حبَّة طماطم، وقليلًا من الخيار، وبرطمانًا من الكِريمة الحامضة الثَّخينة التي وُضعَت في وعاءٍ احتفظوا به تحت الماكينات، كما تجسَّم أيضًا رغيفٌ من خُبز الجاودار، مزَّقوه واستخدَموه كالملعقة لأكل الكِريمة والخضراوات.

في تلك الغُرف العُلويَّة سالَ عرق الرِّجال غزيرًا، وأذكرُ عاملًا معيَّنًا تساقطَ عرقه على نحوٍ غريب. كان رجلًا ضئيل الحجم استنكفَ عن استعمال المقصَّات، ودائمًا في آخِر كلِّ درزٍ قضمَ الخيط بأسنانه بدلًا من قصِّه، لتلتصق بشفته السُّفليَّة الخيوط المقطوعة، ومع نهاية اليوم تكون لحيةٌ متعدِّدة الألوان قد نبتَت له. على أطراف الخيوط هذه انصبَّ عرقه وتقاطرَ على الأقمشة التي ما انفكَّ يُجفِّفها بخرقة.

بطبيعة الحال، ساءَت روائح النَّاس من شدَّة الحرارة، لكن روائح بعضهم زادَت على الآخَرين سوءًا بكثير. أحدُ التَّرزيَّة في ورشة أبي عُدَّ في هذا الصَّدد حصانًا، وادَّعى أبي الذي لم يتمتَّع عادةً بحاسَّة شمٍّ -دون أن يفهم أحدٌ السَّبب- أنه يشمُّ رائحة هذا الرَّجل، ولم يُخاطِبه إلَّا وبينهما مسافة. ليجني أكبر قدرٍ ممكن من المال، بدأ هذا الشَّخص العمل في الخامسة والنِّصف صباحًا واستمرَّ حتى انتصاف اللَّيل، وقد امتلكَ عمائر سكنيَّةً في حيِّ برونكس وأرضًا في فلورِدا، وبدا شبه مجنون من فرط الجشع. اتَّسم الرَّجل ببنيةٍ قويَّة وعمودٍ فقريٍّ تام الاستقامة وشعرٍ متشابك وجُذامة لحيةٍ على وجنتيْه، ونخرَ كالحصان وهو يدفع ماكينة التَّقطيع متتبِّعًا التَّصميمات عبر ثماني عشرة طبقةً أو نحوها من خامات المعاطف الشَّتويَّة. في مرَّةٍ في أواخر الأصيل أرمشَ بعينيْه بقوَّةٍ ليتخلَّص من العرق الحارق فيما ثبَّت القُماش بيُسراه وضغطَ على الشَّفرة التَّردُّديَّة العموديَّة الحادَّة كالموسى بيُمناه. بترَت الشَّفرة سبَّابته عند المفصل الثَّاني، ورافضًا بغضبٍ أن يذهب إلى المستشفى، فتحَ الرَّجل ماء الصُّنبور على جَدعة إصبعه، ولفَّ يده بمنشفة، ومباشرةً واصلَ التَّقطيع ناخرًا فائحَ الرَّائحة الكريهة، وعندما بدأ الدَّم يتبدَّى من خلال طبقات المنشفة المضمومة، خلعَ أبي قابس الماكينة وأمرَ الرَّجل بالذَّهاب إلى المستشفى، لكنه عادَ في الصَّباح التَّالي، وكالعادة عملَ النَّهار بطوله وحتى بعد حلول المساء، ليُكوِّم مزيدًا من العمائر السَّكنيَّة.

*

 

في ذلك الحين كانت القطارات المعلَّقة لا تزال موجودةً، وقد بُنِيَ كثيرٌ من عرباتها من الخشب وزُوِّدَ بنوافذ تُفتَح وتُغلَق. تحرَّكت في برودواي عربات ترولي بلا أجناب، استطاعَ المرء فيها -على الأقل- أن يشمَّ النَّسيم رغم سخونته، وهو ما دفعَ كلَّ يائسٍ عاجز عن احتمال البقاء في شقَّته إلى دفعِ نيكل والرُّكوب بضع ساعاتٍ بلا هدفٍ ليتخفَّف من الحرارة. أمَّا في كوني آيلند في نهاية الأسبوع فقد اكتظَّ مربَّع وراء مربَّعٍ من الشَّاطئ بالنَّاس، حتى أمكنَ بالكاد أن تجد مساحةً لتجلس أو تضع كتابك أو ساندوتش الهُت دُج.

لم يأتِ أوَّل تعامُل لي مع مكيِّف هواءٍ حتى الستِّينيَّات، وأنا مقيمٌ بفندق تشلسي. أرسلَت الإدارة المزعومة إلى غُرفتي ماكينةً على عجلات، تُبرِّد الهواء عشوائيًّا وأحيانًا تُسخِّنه، اعتمادًا في تلك الحالة على أكوازٍ من الماء يجب أن تُصَبَّ فيها. عند المِلأة الأولى بخَّت الماء في جميع أنحاء الغُرفة، ليضطرَّ المرء إلى توجيهها نحو الحمَّام بدلًا من الفِراش.

ذات مرَّةٍ قال لي چنتلمان من جنوب إفريقيا إنَّ نيويورك في أغسطس أحمى من أيِّ مكانٍ عرفَه في إفريقيا، ومع ذلك يرتدي النَّاس هنا ثيابًا تليق بمدينةٍ شماليَّة. أرادَ الرَّجل ارتداء سروالٍ قصير، لكنه خشيَ أن يُقبَض عليه بتُهمة كشف العورة.

خلَّقت الحرارة المرتفعة حلولًا غير معقولة: بِدَلًا من الكتَّان تتداعى متجعِّدةً حينما يثني المرء ذراعًا أو رُكبةً، وقُبَّعاتٍ رجاليَّةً من القشِّ يابسةً كخُبز المصَّة، تفتَّحت كلَّ عامٍ كنوعٍ من الزُّهور الصَّفراء الصُّلبة في جميع أنحاء المدينة في موعدٍ مقدَّس بعينه، الأوَّل من يونيو تقريبًا. حفرَت تلك القُبَّعات جباه الرِّجال صانعةً تغضُّناتٍ ورديَّةً عميقةً، ووجبَ أن تُسحَب البِدَل المتجعِّدة -التي افتُرِضَ أنها أبرد- إلى أعلى وأسفل وجانبًا لإفساح مكانٍ للبدن بداخلها.

طفَت المدينة في الصَّيف في خُدرةٍ حثَّت العاقلين في ظروفٍ أخرى على ترديد هذه التَّحيَّة البلهاء بلا نهاية: "راضٍ عن هذا الحرِّ؟ هاها!". كانت هذه بمثابة الدُّعابة الأخيرة قبل ذوبان العالم في بِركةٍ من العرق.