12-أغسطس-2018

ف. س. نيبول

في 11 آب/أغسطس 2018، رحل الكاتب الترينيدادي الذي وضع نصوصه في خدمة الاستعمار وفي استعادة الأساطير المؤسسة للعنصرية البيضاء، والذي وصف بأنه "إنجليزي القرن التاسع عشر" أو "الذي يكره لون بشرته". لم تأت الخلافات حول ف. س. نيبول من الأعمال الأدبية التي كتبها، بل من مواقفه كمؤلف في مقابلاته ومقالاته ورحلاته. المقال المترجم الآتي يقف على عوالم هذا الكاتب.


توفي الكاتب فيديادر سوراجبراساد نيبول، الذي تناول في كتابته الأسئلة المتعلقة بالمكان والهوية لأكثر من نصف قرن، عن عمر يناهز 85 عامًا.

أكدت زوجة نيبول أن زوجها قد توفي بسلام في لندن. وقالت: "لقد كان عملاقًا في كل ما حققه وتوفي محاطًا بأولئك الذين أحبهم بعد أن عاش حياة مليئة بالإبداع الرائع والجهد". وقد أشاد الروائي سلمان رشدي بنيبول، وكتب قائلًا: "لقد اختلفنا طوال حياتنا، في السياسة، وفي الأدب، ولكني رغم ذلك أشعر بالحزن وكأنني فقدت أخًا أكبر عزيزًا. أرقد بسلام فيديا".

ألقى نيبول بنظر ثاقب وتصميم فولاذي الضوء على شظايا الإمبراطورية من خلال سلسلة من الروايات ورحلات السفر

تحول نيبول من كتابة الكوميديا ​​التي بدأ بها مسيرته الفنية، وألقى بنظر ثاقب وتصميم فولاذي الضوء على شظايا الإمبراطورية من خلال سلسلة من الروايات ورحلات السفر. وجلب وصفه غير المألوف لجزر الهند الغربية والهند وأفريقيا والعقيدة الإسلامية كلًا من العداء والثناء على حد سواء. واتهمه النقاد بأنه يزدري شعوب العالم النامي حتى عندما فازت رواياته النثرية الماسية بسلسلة من الجوائز منها جائزة بوكر الأدبية في عام 1971، وجائزة نوبل في الأدب عام 2001.

اقرأ/ي أيضًا: الاستعمار الإنجليزي للهند.. 173 عامًا من استنزاف البلاد وجرف الموارد!

ولد نيبول عام 1932 لعائلة وصلت إلى جزيرة ترينيداد من الهند في ثمانينات القرن التاسع عشر، وقد كان جزءًا مما وصفه في إحدى المرات: "جالية آسيوية مهاجرة تعيش في جزيرة زراعية صغيرة في العالم الجديد". بيد أنه لم يشعر قط أنه ينتمي إلى هذا المجتمع، ففي عام 2008 تذكّر طفولته ووصفها بأنها كانت "فظيعة" وقال عن عائلته بأنها "مروعة... فقد كانت عائلة كبيرة للغاية، مكتظة بالكثير من الناس. لم يكن هناك جمال. لم يكن هناك سوى الحقد". قدمت له منحة دراسية حكومية فرصة للهرب. وصار مهاجرًا مرة أخرى حين سافر إلى أكسفورد في عام 1950 لدراسة اللغة الإنجليزية.

ونظرًا لأنه كان يحلم بتحقيق شهرة في مجال الأدب منذ أن كان في العاشرة من عمره، فقد أمل أن يتمكن من "استكشاف موهبته وأن يصبح بأعجوبة كاتبًا"، في أثناء دراسته للحصول على "درجة علمية لا قيمة لها"، لكنه بدلًا من ذلك لم يجد سوى "العزلة واليأس"، كما قال في حواره مع مجلة ذا باريس ريفيو الأدبية في عام 1998. وأضاف: "لقد كنت مستعدًا بشكل جيد جدًا لتحقيق هذه الغاية. وكنت أكثر ذكاءً بكثير من معظم الأشخاص سواء في كليتي أو في دراستي".

في هذه الأثناء، سعى نيبول جاهدًا لتحويل طموحاته إلى أي شيء ملموس، وتخلى عن اثنتين من رواياته عندما تخرج وبدأ العمل في محطة BBC الإذاعية، وعمل في تحرير وتقديم فقرة Caribbean Voices الأسبوعية. وبينما كان يجلس في غرفة الموظفين المستقلين في دار لانغهام هاوس للبث الإذاعي، راودته إحدى الذكريات لجار له في مدينة بورت أوف سبين -عاصمة جمهورية ترينيداد وتوباغو - وبدأ في كتابة قصة: "كل صباح عندما كان يستيقظ، كان هات يجلس على درج شرفاته الخلفية ويقول بصوت مرتفع، ماذا يحدث هناك، يا بوجارت؟". لقد جلس هناك يكتب على الآلة الكاتبة، وبدا أن قصة ذلك الرجل الذي يعيش في شارع متهالك وكأنها تكتب نفسها، ولم يتجرأ على مغادرة الغرفة حتى انتهى من كتابتها. وفي اليوم التالي كتب قصة أخرى، ثم قصة أخرى حتى تمكن في ستة أسابيع من كتابة مجموعة كاملة من القصص النابضة بالحياة.

 "منزل للسيد بيسوس" النكسات والإهانات التي عانى منها رجل ولد لأبوين هنديين في ريف ترينيداد

بيد أن الناشر أندريه دويتش، الذي لم يرغب في المجازفة بنشر مجموعة من القصص القصيرة لكاتب مجهول، شجعه على كتابة رواية حملت عنوان "المدلك المتصوف"، ونُشرت في عام 1957. لكن حتى في الوقت الذي فازت فيه روايته الأولى بجائزة جوناثان لويلين ريس، أعرض نيبول بالفعل عن كتابة الكوميديا الخفيفة ​​التي ميزت كُتبه الثلاثة الأولى. وبعد أن بدأ في البحث مدفوعًا باليأس عن موضوع ما، بدأ يروي قصّة رجل على غرار والده سيبرساد، ذلك الصحفي والكاتب الطموح الذي عانى من انهيار في عام 1933 وتوفي بعد ذلك بـ 20 عامًا. ترسم رواية "منزل للسيد بيسوس" النكسات والإهانات التي عانى منها رجل ولد لأبوين هنديين في ريف ترينيداد، وصراعه مع عائلة زوجته المتعجرفة وبحثه عن مكان يمكنه أن يعتبره خاصًا به.

اقرأ/ي أيضًا: دور البطاقات البريدية الاستعمارية والنساء في صناعة الحرب

تعجب الروائي كولين ماكينس أثناء مراجعته للرواية في صحيفة ذا أوبزرفر البريطانية الأسبوعية في عام 1961، من كيفية تحقيق نيبول لهذا "التناقض الرائع" في عمل بدا حزينًا، ومروعًا ومخيفًا في بعض الأحيان، ولكنه في نفس الوقت "مسل أيضًا، بل كان حتى مثيرًا للضحك"، وأشاد بالكتابة التي "حتى عندما تتسم الأحداث بالازدراء أو السخرية، يمكن أن تكون رقيقة، وعادلة، وحساسة، ومليئة بالشفقة المتواضعة".

أما بالنسبة للروائي الهندي أميتاف غوش، فقد كتب في عام 2001 قائلًا إن هذه كانت المرة الأخيرة التي "ينظر فيها نيبول إلى الحياة خارج الغرب وفقًا للطابع الخاص بها".

ف. س. نيبول

وأردف قائلًا: "بعد ذلك، ستختفي الجزر المزخرفة بغزارة التي ظهرت في أعماله المبكرة، ليحل محلها سلسلة من الرسوم الكاريكاتورية القابلة للتبادل إلى حد كبير مع المجتمعات التي توصف بأنها منقوصة بالمقارنة مع أوروبا".

بعد أن استنفد في كتابته الخبرات المكتسبة من نشأته، شعر نيبول بالحاجة للمضي قدمًا. وفي عام 1960، دعت حكومة ترينيداد وتوباغو نيبول لزيارة الجزر على نفقتها، وأمضى خمسة أشهر في السفر عبر جزر الهند الغربية ونشر روايته بعد ذلك بعامين. لكن رواية "الممر الأوسط" لم تمدح البلد النابض بالحياة الذي كان على أعتاب الاستقلال كما كان يتوقع رئيس الوزراء إيريك وليامز. أوضح نيبول نمط كتابته في مستهل الكتاب، الذي وصف فيه مغادرته على متن قطار السفينة من واترلوو: "مع حشد من الهنود الغربيين المهاجرين" بأنه كان "سعيدًا لأنه يسافر في الدرجة الأولى". سافر عبر ترينيداد، وغيانا البريطانية، وسورينام، وجامايكا، ومارتينيك، ولكنه صار منهكًا مما رآه كل يوم "نفس الأشياء - البطالة، القبح، الاكتظاظ السكاني، العنصرية".

كتب يقول: "يبنى التاريخ حول الإنجاز والإبداع، ولا يوجد إبداع في جزر الهند الغربية".

وأشاد النقاد في نيويورك ولندن بـ"العرض الساخر والتحليل الممتع" الذي قدمه نيبول، ومدحوا النهج الذي وصفوه بأنه "نقدي ولكن إنساني"، حيث أظهر "غضبه الحتمي" مقترنًا مع "روح الكوميديا المثيرة للإعجاب". ولكن في حين أن شاعر سانت لوسيان ديريك والكوت رأى أن كتابات نيبول رائعة، كان يُشكك في نتائج ذلك السرد الذي بدت خلاله تلك "النظرة الفيكتورية".

رأى إدوارد سعيد أن نيبول أصبح شاهدًا على الادعاء الغربي، مما يجعل قضية "غير البيض سبب جميع المشاكل التي نتعرض لها"

وكتب يقول: "كل شيء يبدو مؤثرًا ومثيرًا للسخرية. إذ أن جميع الأشخاص الذين يقابلهم مثيرون للشفقة بصورة بائسة. وفي الكثير من الأحيان بدوا وكأنهم مبتذلين، ويمكننا أن نتخيل نيبول بينما كان يشعر بالخوف من كثرتهم".

اقرأ/ي أيضًا: فرانز فانون .. وجه للمستعمَرين

خلال العقود الأربعة التالية، استكشف نيبول التراث الاستعماري، وتمكن من الحصول على سلسلة من الجوائز في أثناء انتقاله بين الأدب الروائي والأدب الواقعي. فقد حصل على جائزة دار دبليو إتش سميث في الأدب عام 1968 عن رواية تتحدث عن سياسي غربي هندي في المنفى في لندن، تحمل عنوان "رجال مقلدون"، وجائزة بوكر في عام 1971 عن رواية "في دولة حرة" التي تناقش أحزان الاغتراب. منحته الأكاديمية السويدية جائزة نوبل للأدب في عام 2001، وأثنت عليه "للجمع بين السرد الإدراكي والتدقيق اليقظ في الأعمال التي تجبرنا على رؤية وجود القمع التاريخي".

بذور سحرية

في الوقت نفسه، فقد عرض صورًا قاتمة عن الهند وأفريقيا والإسلام في سلسلة من القصص التي تناولت سفرياته، بما في ذلك رواية "منطقة الظلام" عام 1964، و"مذكرات الكونغو" في الثمانينات، و"بين المؤمنين" عام 1981. بالنسبة للنقاد مثل إدوارد سعيد، أصبح نيبول "شاهدًا على الادعاء الغربي"، مما يجعل قضية أننا "غير البيض سبب جميع المشاكل التي نتعرض لها". وقال سعيد إنه لم يكن "غير مهتم بالعالم الثالث على الإطلاق" وحسب، بل كانت رواياته "تنم عن جهل، وأمية، ومليئة بالصور النمطية... إن روايات نيبول التي تتناول العالم الإسلامي، وأمريكا اللاتينية، وأفريقيا، والهند، والكاريبي تتجاهل كليًا ضخ كميات كبيرة من الدراسات النقدية حول تلك المناطق لصالح أكثر الأساطير الاستعمارية ضحالة ودناءة وسهولة، حول الأفارقة وذوي البشرة السمراء".

ديريك والكوت: "لقد تعرضت للعض، يجب أن أتجنب العدوى، وإلا سأكون ميتًا كروايات نيبول"

لم يخف نيبول قط من الجدل، فقد قارن بين "الأثر الكارثي" للإسلام والاستعمار في عام 2001، واقترح بعد عقد من الزمن أنه "من خلال فقرة أو فقرتين"، يستطيع أن يقرر ما إذا كان النص "قد كتبته امرأة أم لا". كما بدأ نزاع بينه وبين كاتب الرحلات بول ثيرو في عام 1996 واستمر لمدة 15 سنة قبل أن يتوسط الكاتب إيان ماك إيوان في التقارب بينهما في مهرجان هاي. وقد ثبت أن عداء نيبول الطويل الأمد مع والكوت كان أقل قابلية للحل، فقد وصل إلى أقصى مستوى مع هجوم الشاعر عام 2008 على زميله الحائز على جائزة نوبل، عندما قال: "لقد تعرضت للعض، يجب أن أتجنب العدوى، وإلا سأكون ميتًا كروايات نيبول".

اقرأ/ي أيضًا: مخازي الإمبراطورية البريطانية في ذكرى أفولها

وقد لحق الكثير من الضرر بسمعته بعد أن أعلن لصحيفة نيويوركر عام 1994 أنه كان "رجل عاهر" خلال زواجه من باتريشيا هيل، وتداعت سمعته أكثر في عام 2008 بعد أن اعترف لكاتب سيرته الذاتية باتريك فرينش بعلاقة طويلة الأمد مع مارغريت غودينغ كان فيها "عنيفًا جدًا".

لكن نيبول أعلن أنه لم يعبأ بانتقاد أعماله، كما أوضح في حواره مع صحيفة ذا أوبزرفر عام 2008. وقال، "عندما أقرأ هذه الأشياء، استمتع بدرجة كبيرة. هذا لا يضايقني على الإطلاق".

 

اقرأ/ي أيضًا:

ديريك والكوت: الغريب الذي أحبّكَ

تشيماماندا نجوزي أديتشي تفوز بجائرة PEN Pinter