30-يوليو-2015

علاء شرابي/ سوريا

فيما لو أن النص كائن فمن هو هذا الكائن؟ لو قيض لي أن أعرّفه، سأقول عنه: حقل الدلالة وتوهج العلامات. ولو قيض لي أن أحبّه سأحبهُ كما لو أني شكل الكتابة الأول والأخير، وخلقنا كلنا كتاباً لنروي به مواجعنا، وعشناه كلمة وفاصلة ونقطة لنروي حياتنا كاملة غير منقوصة من التفاصيل، تلك الحميدة، وتلك الصغيرة وقد ربض في ظهرانيها الشيطان.

الأخطاء الإملائية غير القاتلة ستكون قاتلة للموسيقى التي تفترضها الكتابة

وفيما لو أنَّ هذا النص الذي أعني كائن ويعيش بيننا، يتنفسُ مثلنا، أو على الأقل يتنفس كحيوان أو نبات ينمو بالقرب منا، فهذا يعني بكل الأحوال أنّهُ جزءٌ من الطبيعة وقطعةٌ مهمة في التوازن، وإلاّ فما المعنى من غابة أو أرض تحفل بكل الطبيعات وتنتصر لإنسانها وحيوانها ونباتها، في حين أن تلكَ الحياة المتوازنة تغيب في مكان آخرَ؟ أيضاً تلكَ الطبيعة/ الأرض الطرية والندية والخضراء واليابسة والجامعة والجامحة بجموح من تُعيّشهم في كنفها، والهادئة كذلك من هدوء سكناها، تجعلُ النفسَ أقربَ إلى الهدوء والسكينة وتقبلِ الآخر وفهم مراميه دون تحميلها ما لا تحتمل على عكسِ تلك الذات، الذات الأحاديةِ والمشغولة بنفسها، ترممها، وتعيد اجترارها، وتؤثث غاياتها بحسبِ الحاجات ومن دونها كذلك، لأن ذلك اللاتوازن لا بد سيعنى بأرض نفسية شبيهة بأرض حقيقية تميل للأصفر كلية، ولا تحفل بما تحفل به الأخرى من الأخضر ولمعة الشمس ونقاء الهواء وحنو الريح، وهنا فأيُّ منطوقٍ سيكون وأيُّ كتابةٍ وأيُّ احتمال للوصول إلى الآخرِ القارئ أولاً، أو الآخر الذي وهبته لنا حكمة الجغرافيا وتواشجات البيولوجيا، بحيث نحملُ نفس الجينات والسحنة وطريقة التفكير، إلا مارحم ربي، فهل نحن أمامَ نص/ نصوص متناسخةٍ عن نفس الصورة ولها المدلولات ذاتها والهدف؟!

يكتبُ العربُ نصهم بثمانية وعشرين حرفاً، وفيما لو أضافوا الهمزة ستكون تسعةً وعشرين، وتتراوح رموز اللغة الصينية بين 2000 و5000 رمز، ويعتقد من ينظر إلى الصينية أن ما يكتبون به نحت ورسم وليس أحرفا، بينما هي أشكالٌ تشير إلى معانٍ محددة، لكنها في يدِ الأديبِ الصيني تذهبُ إلى غير معانيها الحقيقية ومعقوليتها، وربما هذا يقرّب اللغة، أي لغة، في هذا المعنىَ إلى تعريفِ الشعر، أو لنقل أحد تعاريفه أو مقارباته، على أنُّه قتلٌ لمعقولية المفردة، المفردة التي مهما سمَت واكتسبت من الموسيقى تبقىَ منفردة في عزلة عن جمالها الحقيقي، فيما لم تتضافر جهود أخواتها اللغويات معها. 

أحدُ النصوص يحملُ قلقَه، والقلق هذا ينشغل بالسؤال الوجداني والقدرة المعرفية واللغوية، وعلى هذا الأساس فأنَّ الأخطاء الإملائية غير القاتلة ستكون قاتلة للموسيقى التي تفترضها الكتابة عموماً، حتى تلك المتميزة بالصرامة لعلاقتها بالحفر والبحث، أو الذاهبة إلى قول حدث آني، أو خبر كأن يكون صحفياً يرتبط بزلزال في أندونيسيا أو فيضان في نجد السعودية! 

ويتعدىَ الأمر إلى خللٍ في الصياغات، وتبعثر علامات الترقيم على هواها، وعلى غير هدى من كتابتها لحاجتها في توصيف الدفقة الشعورية، وهو مايجعل قارئاً جيداً، يتخبّط ويقرأُ بشكل مغلوطٍ، وهنا سنجدُ هذا النص فقدَ بعضاً من جمالهِ قبلَ القراءة المسؤولة والفاحصة لجوانياتهِ. 

ثمة نصوص، لشدة ما يدوّرها أصحابها، تبدو أشبه بعملية تدوير القمامة إلى علب بلاستيكية مسرطنة

جَرب أيها الكاتب أن تعطي نصك لشخص تثق بمعرفته ومهارته اللغوية، واسمع منه ما يقرأه على أسماعك، يحدث برأيي أحياناً أن تكرهَ ما تسمع وتنظر إلى المقروء بدافع إعادة الإنتاج، متخيّلاً أن النص ليس ملكك هو لأحد سواك، فيحضر عندكَ "لو أنه قال هنا كذا، وهناك قال كذا، لو أنه حذفَ المفردة الفلانية أو ثبتّ تلك"، لا يأتي هذا من خروج النص عن صاحبه على صاحبه، بل تتحملُ القراءة/ الفعالية قدراً من المسؤولية اتجاهَهُ، وعليه فإن قارئكَ عزيزي الكاتب ليس معنياً بالمجيء إلى نصك ومعه كل أدواتهِ التفكيكية ومهاراته في التلقي، ذلكَ التعب الذي سيبذله في تتبع الإشارات الملتبسة سيحول بينه وبين تذوقه الأولي، ويقلل من شأنِ الكتابة وشأنك، فارحم نفسك أولاً بتحميل كتابتك ما يلزمُ من الدراية بخفاياها، وما يلزم من التصور في وصولها الآخر/ الطرف الثاني، الذي تنشغل به شئتَ أم أبيتَ، وارحم من يتبع أثركَ من باب رد الجميل والعرفان، فالقِدر لا يستقيمُ إلا على أثافٍ، وإحدى أثافي الكتابة قارئها.

يقرأ أحدنا الكثير، ما يراه نصاً يمدحه، ويمتدحه لوفرته بما يستقيم من معنى ودهشةٍ، وهو نصٌ سيبدو جديداً، مع أنَّ على رملهِ خطى الآخرين وفي روحه ما يشي بهم، وكما لو أنه قيل للمرة الأولى فحسبه جِدتهُ وبدائلهُ الذكيةِ في تلمسِ روح قارئ، يتوقُ إلى المختلف أو إلى ما لا تألفه الأذن طويلاً حتى ملّته، فكم هناك كتابٌ يتشابهونَ، وكم هناك نصوص تتشابهُ فيما بينها، وللكاتب الواحد، بعضهم، مئاتُ النصوص. لكنَّ من الإفراط في اجتراره، ستقرأه أيها القارئ على أنّه النص الوحيد لصاحبه، يدوّره من مكان إلى آخر لضحالة في قراءاته، ووهن في ملاحقة مناطق جديدة وقلقة في هذه المسألة لاكتشافها والتثاقف معها، حتى يبدو نصه الوحيد أو عملية تدويره، أشبهُ بعملية تدوير القمامة إلى علب بلاستيكية مسرطنة.