13-نوفمبر-2015

الثعالبي..جد النهضة والنداء؟(فتحي بلعيد/أ.ف.ب)

ونحن نطوي صفحة من التاريخ ونفتح أخرى، كثيرًا ما كانت القطيعة والنسيان أو التشبث المرضي بالماضي أهم ما يميّز مرحلة الانتقال. وفي أحسن الأحوال يلتجئ الانتهازيون أو الأذكياء لتوظيف التاريخ باعتباره سلاحًا فتّاكًا وينشرون المغالطات التي بنيت عليها الأساطير وحتى الحضارات والثقافات ومن ذلك الكثير من تاريخ تونس.

اقتحم الشيخ عبد العزيز الثعالبي المشهد السياسي التونسي من جديد ليثير جدلًا توقف عند حدود التوظيف السياسي دون مسح الغبار عن ذاكرة وطنيّة منسية

فتاريخ الحركة الوطنيّة مشوب بالكثير من التوظيف والتوجيه والمغالطة لا نزولًا عند مقولة أن التاريخ لا يكتبه إلا الأقوياء فحسب، بل لأن الدارج والمتواتر بين الناس، بعلم أو بغير علم، أن منطق التطور يقتضي القطيعة مع الماضي وهذا مرض عضال تتبعه أمراض أخرى كانت في السابق لا ترى بالعين المجردة ولكنها اليوم مفضوحة.

بشكل مفاجئ، اقتحم الشيخ عبد العزيز الثعالبي (1876ـ 1944) المشهد السياسي التونسي من جديد ليثير جدلًا واسعًا توقف عند حدود التوظيف السياسي دون مسح الغبار عن ذاكرة وطنيّة، لعل خير دليل على أن ما تزخر به لا يزال مقبورًا، أن أغلب من سمعوا اسم الثعالبي لم يعرفوه من الوهلة الأولى وهذا طبيعي بالنظر إلى التصحر الذي عاشته أجيال برمتها في السنوات الأخيرة.

تاريخ منسي

برز في العقدين الأخيرين من القرن التاسع عشر بتونس، فئة من المصلحين ارتكزت على أسس إسلامية وعربية وعلى إرادة الخلاص من فرنسا واحتلالها البغيض. فقد برز الشيخ سالم بوحاجب، والبشير بن مصطفى صفر، تلميذ خير الدين التونسي، وقد كونوا جمعية سموها "الحاضرة" وأصدروا جريدة أسبوعية تحمل الاسم نفسه، ومن ثم أسسوا "المدرسة الخلدونية" سنة 1896.

وفي تلك الفترة، برز الشيخ عبد العزيز الثعالبي، وهو من أصول جزائرية، واهتم به جده المجاهد عبد الرحمن الثعالبي الذي قاوم الفرنسيين في الجزائر وقام على تعليمه وتحفيظه القرآن ومبادئ النحو والعقيدة ، ثم التحق بمدرسة "باب سويقة" الابتدائية بتونس العاصمة ثم بجامع الزيتونة ولما تأسس الحزب الوطني، الذي كان أول حزب يطالب بتحرير تونس سنة 1895، انضم إليه ، ثم أسس الحزب الوطني الإسلامي ، وكتب في الصحف داعيًا إلى الاستقلال.

عطّل الفرنسيون جريدتيه المنتظر والمبشر، فأسس جريدة "سبيل الرشاد" التي استمرت عامًا ثم أوقفت ومن بعدها ضيقت الحكومة على الصحافة، وهنا رأى الثعالبي أن تونس ضاقت به فسافر طيلة أربع سنوات، قام خلالها بالتعريف بقضية بلاده. ثم قبض عليه سنة 1906 ووضع في السجن بتهمة محاربة الأولياء الصالحين، فسجن شهرين ثم خرج لينادي بالإصلاح الذي لم يرض عنه الفرنسيون ولا بعض المشايخ.

ولما احتلت إيطاليا ليبيا سنة 1911 حاول مساعدة المجاهدين وإرسال المساعدات فنقم عليه الفرنسيون الذين ألقوا القبض عليه سنة 1912 وأخرجوه خارج البلاد، لكنه عاد سنة 1914 وظل عاملًا في مجالات الإصلاح إلى أن اعتقل سنة 1920 وسجن في تونس. غادر البلاد من جديد سنة 1923 وبقي خارجها حتى عام 1937، واستقر به المقام في العراق حيث درّس في جامعة "آل البيت" ببغداد ومثّل العراق في مؤتمر الخلافة بمصر سنة 1925 الذي دعا إليه شيخ الأزهر عقب إسقاط الخلافة في إسطنبول.

من مصر، سافر الثعالبي إلى الصين وسنغافورة وبورما والهند، ثم عاد للقاهرة ومنها إلى تونس حيث استقبل استقبالًا شعبيًا حافلًا ولكن حالة الحصار آنذاك دفعته إلى أن ينزوي في بيته ويتفرغ للتأليف والمحاضرات إلى أن توفي سنة 1944.

أما ما يعرفه عنه التونسيون خاصة تأسيسه الحزب الحر الدستوري سنة 1920، وأنّه هو من ألّف مدوّنة الفكر الوطني التونسي، كتاب "تونس الشهيدة" ذائع الصيت، لكنّ كثيرًا منهم لم يعرف ربّما أن الشيخ الثعالبي كان من أبرز رفاق رائدي الحركة الوطنية الأخوين باش حامبه في تأسيس "حركة الشباب التونسي" سنة 1907، الّتي كانت طليعة التنظيمات السياسية الوطنية خلال القرن العشرين، رفقة شخصيات وطنية فذّة أخرى من قبيل البشير صفر وعبد الجليل الزاوش وخير الله بن مصطفى، وأنّ هذه الحركة هي الّتي وقفت وراء تأطير "ثورة الترامواي" سنة 1912.

كما لم يعرف التونسيون أيضا أن أطروحة الثعالبي الفكرية والسياسية، الّتي لخّصت ما يناهز نصف قرن من الحركة والجهاد في سبيل الوطن والدّين القويم، قد عملت على إيمان مطلق قارب اليقين من أن سرّ الحضارة لدى العرب والمسلمين قائم على قدرتهم في المزج والتوفيق بين "الوطنية" و"الإسلام"، وأنّه بدون اتحاد هذين البعدين فسيظلّ المسار أعرجًا وستظّل النتيجة تخلّفًا، فالتمسّك بالوطنية دون الإسلام سيجعل الدولة والمجتمع مسخًا، والتشبّث بالإسلام دون الوطنية سيقود الأمّة إلى الانغلاق والجمود والعبودية، حسب رأيه.


عبد العزيز الثعالبي(فيسبوك)

الثعالبي "الجد"

مؤخرًا ومنذ طرح اسم الشيخ عبد العزيز الثعالبي في المشهد السياسي، تتالت التصريحات التي تنسب تيارات سياسية وعائلات فكريّة إليه باعتباره "جدًا"، وهي تصريحات من قيادات في حزبي النهضة ونداء تونس أساسًا، والواقع أن هناك الكثير من القول حول هذا الأمر بالذات.

الثعالبي، هو من الآباء المؤسسين للحركة الوطنيّة أمّا أن يعتبره "البورقيبيون" (حزب نداء تونس وبعض الأحزاب الأخرى)، جدًا لهم فتلك مغالطة كبرى لتناقض كبير في الرؤى والأطروحات السياسية بين الطرفين والثابت أن الثعالبي هو جدّ مؤسس للتيار القومي العروبي في تونس من خلال "حركة الشباب التونسي" وهو بالطبع جد لشق الدستوريين الذين قام بورقيبة نفسه بإبعادهم وإقصائهم لميولاتهم العروبية أو الإسلامية.

الثعالبي هو جدّ مؤسس للتيار القومي العروبي في تونس من خلال"حركة الشباب التونسي" وهو بالطبع جد لشق الدستوريين الذين قام بورقيبة نفسه بإبعادهم

وهو كذلك جد لفريق كرة القدم "النادي الإفريقي" باعتباره من تقدم بطلب تأشيرة قانونية لجمعية "الملعب الإسلامي الإفريقي"، التي رفضت سلطات المستعمر التأشير لها آنذاك بسبب كلمة "الإسلامي" وبسبب وجود الشيخ الثعالبي نفسه، الذي غادر الهيئة صحبة آخرين وعوضهم منتسبون إلى منظمة الكشّافة التونسيّة آنذاك وغيروا الاسم للحصول على التراخيص.

أما عن الحركة الإسلاميّة في تونس فالواقع أن الشيخ الثعالبي وأطروحته السياسية كانت غائبة عنها في التأسيس ولكنها مؤثرة جدًا فيها في مسار المراجعات فقد اعتبره زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي أحد أعلام الإصلاح في الحركة الوطنيّة في سلسلة "تأملات في الدين والسياسة"، التي كان يقدّمها أثناء فترة تواجده بلندن قبل الثورة التونسية.
في الحقيقة، الشيخ المصلح عبد العزيز الثعالبي أب مؤسس للحركة الوطنية إجمالًا لا يمكن بأيّ حال الانتساب إليه خارج سياق إدراك السياقات الحقيقيّة التي برز فيها وخارج الفهم الحقيقي لأطروحته التي جعلت من مثلث الثروة والسلطة ورد الاعتبار مرتكزات لقيام دولة قوية.

الثعالبي "النوستالجي"

عندما يعجز العقل البشري عن إدراك الواقع وإنتاج نصوص كفيلة بعقلنته وتحليله فإنه يرتكز آليًا على نصوص قديمة لسدّ عجزه ذاك وهذا ما ينطبق تمامًا على عملية استحضار الشيخ المصلح عبد العزيز الثعالبي في الأشهر الأخيرة، إذ تحتاج "التجربة" و"النموذج" إلى زعيم ملهم ورمز يكون محل أكبر قدر ممكن من الإجماع وهذا ما ينطبق على الثعالبي بقطع النظر عن مدى انسجام الممارسة السياسية لمن يرتضون استحضاره مع أطروحته أو مدى فهمهم لها أساسًا، فالمصالحة مع الذاكرة الوطنيّة والجمع بين الإسلام والديمقراطيّة إلى جانب الحاجة إلى الرمزيّة كلها شروط تتوفر في الشيخ الثعالبي أمّا من الناحية العمليّة فلا شيء يدلّ على حضور أفكاره ونظرياته في من يرغبون في استحضاره.

الغوص في تجربة الشيخ عبد العزيز الثعالبي ودراسة أطروحته السياسيّة يكشف بوضوح لا لبس فيه أن استحضار اسمه ومسيرته في المشهد السياسي الحالي بتونس لا يعدو أن يكون سوى "نوستالجيا" و"سدّ لفراغ على المستوى الرمزي".

اقرأ/ي أيضًا:

التوظيف السياسي للمدارس.. مجددًا في تونس

تونس.. من الترهيب إلى الإرهاب