26-يوليو-2017

لقطة من الفيلم

وكأننا أمام فيلم "شجرة الحياة" 2011 للمخرج الأمريكي تيرنس ماليك الحائز على السعفة الذهبية في مهرجان كان من نفس العام، حينها أطلق ماليك أفكاره الفلسفية حول معنى الحياة وكيف ستتبدى لنا إن نظرنا إلى الماضي. فتعقب تأملات رجل يعيد النظر إلى ماضيه ويتأمل أولاده وزواجه وكيف تغيرت حياته.

ما يفعله تيرنس ماليك في فيلمه الجديد "أغنية لأغنية" 2017 هو رسم خط مشابه لتأملات فيلمه شجرة الحياة

اليوم ما يفعله تيرنس ماليك في فيلمه الجديد "أغنية لأغنية" أو (Song to Song) هو رسم خط مشابه لتأملات شجرة الحياة، فاعتمد نفس الطريقة في قول حكايته عن الحب الحقيقي، ومعنى التحرر، والوصول إلى المعنى الجوهري للمشاعر الإنسانية.

لطالما كان هذا الملعب المفضل لتيرنس ماليك، بل ولعبته التي احترفها وأتقنها. وهي بناء سردي يقوم على فكرة يرصدها بكاميرته المتحركة دومًا حول الشخصيات وبدواخلهم في أغلب الأحيان، حيث يستطيع ماليك أن يجعل أبطاله يقولون دون أن يحركون شفاههم، يتبع عيونهم وحركاتهم وحتى الشكل والهيئة التي يتصرفون عليها، ورد فعلهم الذي يبدو مسرحيًأ إلى حد ما.

اقرأ/ي أيضًا: إذا أعجبك "Dunkirk" فإليك 6 أفلام عظيمة عن الحرب العالمية الثانية

يتتبع تيرنس ماليك في فيلمه Song to Song شخصية فتاة جميلة تلعب دورها "روني مارا" تدعى فاي، تبحث عن ما يساعدها على الإحساس بالحقيقة ولمس جوهر الأشياء، بعد أن شعرت بأنها تخسر وترتكب الحماقات في علاقتها مع المنتج الموسيقي الثري كوك، يلعب دوره "مايكل فاسبندر" حيث يمتلك كوك كل مايمكن أن يجعله سعيدًا لدرجة البوهيمية.

الجنس العنيف الذي تتحدث عنه فاي في بداية فيلم Song to Song يكاد يكون العتبة التي بدأت عندها تفقد أي معنى للحياة، وتحاول إيجاد الحرية خارج السياج كما تصفه في الفيلم في إحدى مونولوجاتها.

تطلب لذلك المعنى ولكن لا تستطيع أن تحصل عليه، فهي عالقة بين حب كوك حيث الشهرة والمال، وحب ب.ف وهو شاب موسيقي يقنعه كوك بأنه سيساعده ليحصل على حياة أفضل.

يلعب الممثل "رايان غوسلينغ" دور الموسيقي الشاب الذي لا فرصة أمامه لتقديم نفسه فنيًا، يذكرنا في بعض الأحيان بالشخصية التي لعبها في فيلم La La Land حيث الشباب الباحث عن أمل يرجى من خلال موهبته، ولكن في فيلم تيرنس ماليك تصبح الموهبة معلقة لصالح الحب، لذلك لا نراه يعزف على الغتيار أو الكيبورد إلاّ عندما يكون مع حبيبته، فالموسيقى تتدخل في الحب لتبني أحد جوانبه، وهي خط أساسي لما يشعران به معًا فالإحساس الحقيقي والمعنى الجوهري للحياة، يحضر بينهما حيث تلك السعادة البادية عليهما بكل ما فيها من براءة وشفافية.

تكذب فاي بشأن علاقتها مع الاثنين، تقع بين حمى النقائض والمقارنات لا يمكنها أن تتخلى عن كوك فهي تحبه بطريقة ما، ومعه تنال صورة من صورها الشخصية التي تحلم بالظفر بها. كل شيء مع كوك مختلف، كل ماتتمناه وتطلبه إلى جانب الحب ولكن غير حقيقي وغير مكتمل.

على العكس منه مع ب.ف فهو صاف نقي ومكتمل، تعيش فاي تلك التناقضات التي تذهب بها إلى عدم الرضى عن حياتها، حيث لم تجد حبها لا خارج السياج ولا داخله.

رغم الانسجام بين الثلاثة حين يكونون معًا، وكأنهم أصدقاء منذ زمن طويل يلعبون ويضحكون بخفة وراحة، في هذه اللقطات تحديدًا تغيب فواصل الحب والصدق عن كل ما راكمته من أكاذيب، صحيح أن فاي لا تقوى على البوح لـ ب.ف بحقيقة علاقتها مع كوك وإنها ما زالت معه، إلاّ أنها تشعر ببعض المرح والقليل من الإرباك عندما تكون معهما سويةً، عند تلك التناقضات البشرية يقف الفيلم.

يتتبع ماليك في فيلمه أغنية لأغنية شخصية فتاة جميلة تدعى فاي، تبحث عن ما يساعدها على الإحساس بالحقيقة ولمس جوهر الأشياء

يتعرف كوك على روندا وهي نادلة في إحدى المطاعم، يطلب الزواج منها ويعيشان معًا، لكن فاي لم تغب من حياتهما، فتحضر معهما في الفراش، الأمر الذي يجعل من الجنس ليس فقط عنيفًا بالنسبة لفاي بل وغريبًا، حين بدأت تشعر بالقيد الكلّي وباتت بعيدة كل البعد عن التحرر وعن ب.ف.

يخنقها هذا الشكل من العلاقات، كما ويؤثر على روندا، التي تبحث عن تحقيق ذاتها بشكل ما مع كوك وفي حياتها بشكل منفصل، تتحداه أحيانًا تشفق عليه ربما، فهي قد تعلقت به وأحبته ولكنها لا تستطيع أن تكمل بما لا تجد نفسها به، تقدم روندا على الانتحار وتترك كوك متخبطًا بما يفعل وتأثيره على حياة الأخرين. وفي اتباعه الكلي لشهوته أضاع أناس أحبوه.

كما ويتعرف ب.ف على أماندا وهي امرأة تكبره بسنوات تؤدي دورها "كيت بلانشت" يقيم معها علاقة حيث يبدأ بالتحرر شيئًا فشيئًا من أكاذيب فاي عليه وتوهانها بينه وبين كوك، ولكن ريثما تتراجع أماندا بعد أن سمعت رأي صديقتها بأنهما غير مناسبين ولا يمكن أن يكونان معًا.

في نفس الوقت تلتقي فاي بامرأة أخرى تنجذبان لبعضهما، معها تشعر فاي بالقليل من الرضا والراحة. ولكن ريثما ينتهي كل شيء تعود فاي باكية ومحبطة إلى والدها وكأنها شخص مختلف أخفقت بأن تكون كما أرادت لنفسها، بعد وقوعها بسلسلة من التجارب الفاشلة. في الوقت الذي يعود ب.ف يأس ومنهز لوالده المريض.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Quiet Passion".. الاحتفاء سينمائيًا بقصائد إيميلي ديكنسون

يقرر ب.ف وفاي أن يعودا لبعضهما كشخصين يتعرفان لأول مرة على بعضهما، يحاولان نسيان كل ما فات لعلهما يصلان للمعنى الحقيقي للحب ويكتشفان تحرر أرواحهما معًا، ولطالما حلما بذلك.

تزخر أفلام تيرنس ماليك بالمعاني الدينية والفلسفية وتمتلأ ببعض الأمثولات عن العقاب والثواب، والعودة إلى الفطرة الخيّرة في النفس الإنسانية، بعيدًا عن نوازع العاطفة.

وغالبًا ما يجد نفسه مطمئنًا عندما يعود أبطاله إلى ما كانوا يبحثون عنه ويريدونه، يدفعهم باتجاه الإحساس بالذنب حتى يصل بهم إلى النجاة من الشرير سواء كان الأخر أو كان أنفسهم. تلك المعايير تجعل من عوالم ماليك ضيقة بعض الشيء، رغم طوباوية أفكاره ووقوفه على تخوم الفضيلة بعد أن يفلت بطله أمام طريق وعرة ويضعه بمواجهة نزواته.

بات تيرنس ماليك يكرر نفسه وأفكاره بعد فيلمه "شجرة الحياة" وكأن سينماه تنطلق من معايير هذا الفيلم.

بات تيرنس ماليك يكرر نفسه وأفكاره بعد فيلمه شجرة الحياة، وكأن سينماه تنطلق من معايير هذا الفيلم

عمل تيرنس ماليك في فيلمه Song to Song مع مدير التصوير الأشهر في أمريكا إيمانويل لوبيزكي، فبعد عمل الأخير مع المخرج المكسيكي أليخاندرو إيناريتو في فيلمه "العائد" أو (The Revenant) يعود بعدها مباشرة للعمل مع تيرنس ماليك في هذا الفيلم، ولذلك يعتبر فيلمًا غنيًا باللقطات الطويلة التي تتحرك من خلالها الكاميرا بانسيابية إيمانويل لوبيزكي المعهودة، وترسم ما يمكن تسميته بشطحات الحلم محاولةً رسم ذلك المعنى الذي تبحث عنه الشخصيات خلال توهانها، وكل ما يواجهها من خيبات وانتصارات.

ربما أصبح من الضروري القول بأن إيمانويل لوبيزكي أهم من يستطيع أن يرسم عوالم الفيلم الإنساني الذي يوقعه تيرنس ماليك. والذي انتهى مع انتصار الحب بعد فقدان الأمل من إيجاده، ومرر لنا ماليك مقولة جديدة تشبهه بأنك لن تجد المعنى الحقيقي ما لم ترمي بنفسك خارج السياج.

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم Ghost in The Shell.. بين الاجتهاد والتقليد

فيلم Okja من نيتفلكس..وجبة سينمائية معجونة بالسخرية