05-مارس-2019

من الفيلم (IMDB)

الذكريات تحفر عميقًا داخل الإنسان، وحين يكون الإنسان على حافة القبر يستعيد ذكرياته التي أدمت قلبه أو جعلته يبتسم. يمر أمامه شريط حياته بكامله، كفيلم. الذكريات تلاحق السجين في زنزانته، يتذكر كل لحظات حياته قبل إعدامه. يتذكر زوجته، أطفاله، نزهاته في الجبال، أحاديثه حتى مطلع الشمس مع أحبائه.

إن كان بالإمكان ترويض الفأر ألا يمكن ترويض الإنسان وإصلاحه بدلًا من إعدامه؟

الحب هو ما يستحق المشاهدة، إنه طاقة لا نهاية لها. "لا يمكن التغلب أبدًا على الكراهية بالكراهية، الحب وحده يتغلب عليها. هذا قانون قديم". قالها أحد الحكماء. فالإنسان يشفى حين يتخلص من الشرور بداخله. إنه فيلم الحياة. فيلم حول صراع الخير والشر، الحب والكراهية، النور والظلام، الملائكة والشياطين.

اقرأ/ي أيضًا: أصغر فرهادي في "الكل يعلم".. الحقيقة تقرع الأجراس

فيلم "The Green Mile" من إخراج فرانك دارابونت قادر على تحريك ومشاعرنا والتلاعب بأفكارنا.

قصة الفيلم

في كل يوم يخرج العجوز ليمشي وحيدًا، إنه وحيد إلا من ذكرياته، فالماضي يلحق به أو بنا سواء كنا نريد ذلك أو لا. الماضي عنده واضح لا يضمحل، هو البالغ من العمر 108 سنوات والقابع في دار المسنين.

بول (يلعب دوره توم هانكس) يبدأ بسرد قصته إلى صديقته العجوز فيعود ستين عامًا إلى الوراء ليروي تفاصيلها حين كان يبلغ من العمر 48 سنة. كان يعمل حارس سجن وهو مكلف بتنفيذ أحكام الإعدام الصادرة عن المحكمة في لويزيانا عام 1935. اسم السجن أو العنبر E "الميل الأخضر"، أو الميل الأخير الذي يمضيه السجين قبل إعدامه، كذلك لأن أرضية السجن خضراء اللون.

داخل السجن عدد ضئيل من الزنزانات، وحجرة للإعدام فيها كرسي مصنوع من الخشب وفيها أحزمة لتثبيت السجين وأسلاك لتمرير الكهرباء، وبعض الكراسي التي توضع للجمهور. إنها غرفة تشبه مسرحًا صغيرًا أو ما يمكن تسميته بمسرح الغرفة. كذلك هناك حجرة انفرادية بطول مترين وعرض متر لا نوافذ لها تستخدم لعقاب من يثير المتاعب.

خمسة حراس للسجن، أربعة منهم على قدر عالٍ من النبل والكفاءة، وحارس وحيد مدلل وفظ تبدو ملامحه العصابية واضطراباته النفسية الطفولية المنشأ واضحة وجلية. في أحد الأيام يصل سجين أسود ضخم متهم بالاغتصاب والتحرش وسرعان ما يتضح أن هذا الرجل الأسود الضخم بريء مما نسب إليه كونه أبعد ما يكون عن الإجرام، لا بل إنه بعيد كل البعد عن أي من صفات البشر المشينة والمدنسة بالخطايا.

تتوالى الأحداث داخل السجن حيث يتم في كل مرة إعدام نزيل جديد، وفي كل مرة تتكشف إشكاليات جديدة حول الإعدام والإصلاح والموقف الإنساني منهما.

الملاك الأسود جون كوفي

الرجل الأسود الضخم ليس وحشًا. جون كوفي انتزع الشر والبغضاء من داخله. إنه مثال للخير الصافي الطاهر، لكأنه ولي من أولياء الله الصالحين. لديه قدرات خارقة لشفاء المرضى. لا يستطيع القراءة ولا الكتابة. شخصية مثالية وبسيطة بامتياز. عالج مرض الشرطي بول وأعاد الفأر إلى الحياة وشفى امرأة مصابة بأورام خبيثة. إنه يمثّل الخير في عالم أنهكه الشر، الخير الذي مملكته السماء لا الأرض.

يبدو وكأنه نزل من السماء فلم يستطع تحمل شرور البشر لذلك يريد الصعود إليها مجددًا. يعرض عليه حارس السجن الهرب لكنه يرفض. يقول المحامي واصفًا موكله جون كوفي: الكلب المهجن يشبه الزنجي في عدة أوجه، تتعرف عليه، تحبه وتبقيه عندك لأنك تعتقد أنه يحبك، لكنه سرعان ما يهاجمك". كم يحكم علينا الأخرون بعنصرية، وقد كان من الصعب تبرئة رجل أسود في تلك الحقبة. إنه عالم مليء بالعنصرية، فكيف يمكن الحكم على كتاب من غلافه؟

كل إعدام هو بربرية، أما دعوة الجماهير لمشاهدة تنفيذ الإعدام يعد همجية وبربرية أكبر

أحكام البشر ظالمة ونفوسهم مليئة بالشرور. جون كوفي يعلم ذلك جيدًا ويرى الحقيقة ببصيرته. يقول: "لا يمكن أن يخفي الإنسان ما في قلبه". هذا ما يحدث يوميًا في العالم المنهك بالظلم والمظلومين، لذلك يخاف جون من الظلام والسواد والعتمة. إنها مرادفة لعتمة النفوس الشريرة. يطلب من الحارس عدم إطفاء الأنوار، وحتى حين يوضع على الكرسي الكهربائي لإعدامه يطلب عدم تغطية وجهه ويستقبل الموت بعينين مفتوحتين.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "آيات النسيان".. بلاد سكّانها صامتون

بكى على كرسي الإعدام، ربما خوفًا، وربما فرحًا بانتقاله من الجحيم الأرضي إلى النعيم السماوي حيث تعيش الملائكة بسلام. جملته الأخيرة كانت معبرة: أنا في النعيم.

بيرسي الشرطي السادي

شرطي عصابي ونرجسي وعنيف. الشر متمكن منه متغلغل في داخله. سحق فأرًا صغيرًا بقدمه، ولم تكفه مشاهدة عملية الإعدام، بل أراد المشاركة فيها لإشباع ساديته. يريد أن يشم رائحة جسد السجين تحترق. وأثناء تكليفه بتنفيذ مراسم الإعدام لم يبلل بيرسي الإسفنجة بالماء ووضعها ناشفة على رأس المتهم مما أدى إلى احتراق جسده بفعل قوة الكهرباء.

الإسفنجة كانت تسهل عملية الإعدام بالكرسي الكهربائي إذ تساعد في نقل التيار الكهربائي بسرعة داخل الجسد فيموت السجين بسرعة أكبر مما يجنبه العذاب. بيرسي جبان يبول في ثيابه ويخاف من مساعدة رفاقه الحراس، ويتصف بالإهمال والحمق إذ لا يحسب نتيجة أفعاله وهذه صفات سيئة في مكان كهذا يكون فيه النزلاء على حافة الانهيار والجنون.

حاول جون كوفي انتزاع الشر من داخله فلم يستطع، كانت هناك استحالة لتقويمه وإصلاحه. يقوم بيرسي بإطلاق النار على قاتل الطفلتين. إنها معاقبة الشر بالشر. فقد كان من المفترض أن يتنقل للعمل في المصحة العقلية كموظف حكومي لكنه انتقل إليها كمريض. الشر مرض عقلي ونفسي خبيث يصيب الروح.

الشيطان ويليام وارتن

شخصية هستيرية مليئة بكل الأدران السلبية. مجرم تلبس الشر فيه كليًا فصار خادم الشر المطيع. منحل أخلاقيًا ولا يلعب الضمير عنده أي دور فلا وجود لعقدة الذنب عنده لذلك استحال ندمه وتوبته عن أي فعل من أفعاله. سجين مثير للمتاعب، قاتل أزهق أرواح العديد من الناس، اغتصب وقتل الطفلتين اللتين اتهم بقتلهما جون كوفي ظلمًا. حين أمسك بهما في حجرتيهما قال لهما بصوت خفيض: إن كنت تحبين أختك الصغرى اصمتي وإلا قتلتها، وأنت إن كنت تحبين أختك الكبرى اصمتي وإلا قتلتها، فصمتتا. المختل قتلهما بحبهما لبعضهما البعض. حاول جون كوفي نجدتهما فاتهم بسفك دمهما.

السجين ديل ومجانية الوجود

لقد روضت الفأر، يقول السجين ديل. إن كان بالإمكان ترويض الفأر ألا يمكن ترويض الإنسان وإصلاحه بدلًا من إعدامه؟ أحب ديل الفأر وأسماه مستر جنغلز. ديل يشعر بمجانية وجوده فاتخذ من الفأر صديقًا له، فالغريق يتعلق بقشة كما يقال. الوحيدون المتروكون بلا أحباب ولا أصحاب، ومن صار وجودهم كغيابهم يساوي صفرًا، هؤلاء تصبح الحياة بالنسبة لهم ضربًا من الحماقة. يقول للشرطي: خذ الفأر ولا تهمله، إنه كل ما لدي، خذه ريثما تنتهي هذه الحماقة.

هل يصبح من ارتكب خطيئة مجردًا من المشاعر؟ هل تكفي الخطيئة لاعتبار الإنسان شريرًا وتجريده من حقه في الحياة؟ ألا يملك ديل قلبًا وعواطف تجاه فأره؟ فكيف يمكن الحكم على هذا القلب النابض بالصمت الأبدي. يقول السجين قبل إعدامه: هل تعتقد أن الرجل لو كان صادق النية في توبته وندمه عما ارتكبه من آثام، فربما يأتي الوقت الذي يعود فيه هذا الرجل ليجد السعادة ويعيش إلى الأبد؟ هل يمكن أن يكون هذا ما تريده السماء؟ التوبة والندم ألا يشكلان تكفيرًا عن خطايا الإنسان؟

يختبئ الفأر في الحبس الانفرادي. إنها رمزية لتحول الإنسان إلى فأر حين يعزل عن وسطه الاجتماعي. ألا يمكن تجنب عقوبة الإعدام والاكتفاء بتحويل الإنسان إلى فأر وسجنه عقابًا لما اقترفت يداه؟

الإعدام كيف يمكن أن يكون عقوبة؟

يتم حلق شعر السجين قبل إعدامه، بقعة دائرية من الشعر في أعلى رأسه تجز بواسطة الموسى في المكان المخصص لوضع الإسفنجة المبللة بالماء، يتحسس السجين نافوخه بأصابعه، باتت أيامه معدودة. يربط رأسه وتكبل يداه وقدماه وسائر أنحاء جسده بأسلاك معدنية. تغطى عيناه بقطعة قماش ويربط فمه بخرقة كي لا يصرخ. نستمع إلى نشيج صوته المختنق، خفقان قلبه السريع وأعصابه المتوترة، أوردته المنتفخة، الخوف يميته ربما حتى قبل وصول الكهرباء إلى جسده. حانت الساعة، إنه وقت الإعدام، يطمئنه الشرطي: ستكون العملية سهلة وسريعة، سوف نؤديها بسهولة.

من الفيلم (IMDB)

أنفاسه، شهيق زفير. يتلو الشرطي حكم الإعدام: أرلين بيتربك الكهرباء ستسري الآن في جسدك حتى موتك تنفيذًا لحكم المحكمة. يرتجف كفأر في مصيدة. تسري الكهرباء في جسده. يشوى. وما يثير القلق هم هؤلاء الجمهور القادمون لمشاهدة عملية الإعدام كأنهم في مسرحية. وجوههم صنمية وأخرى مكفهرة أو مكتئبة. أعدم أرلين بيتربك لقتله رجلًا في عراك تم داخل حانة بسبب خلاف على زوج من الأحذية.

هؤلاء الذين يصرخون مطالبين بتطبيق الإعدام، أود لو أعطيهم مسدسات محشوة بالرصاص لينفذوا أحكام الإعدام بأيديهم عسى يحققون بذلك "العدالة"، فهل سيتمكنون من تأدية هذه المهمة؟ كل إعدام هو بربرية، أما دعوة الجماهير لمشاهدة تنفيذ الإعدام يعد همجية وبربرية أكبر. فما الذي يمكن أن يشغف إنسانًا برؤية موت إنسان آخر! يطرح الفيلم ضرورة إعادة النظر بالمؤسسات العقابية وأحكام العقاب وفي طليعتها عقوبة الإعدام، والنظر أيضًا في الفرق بين القتل الفردي والقتل الممارس من الدولة.

كيف يمكن لمن لا يستطيع تحمل رؤية الإعدام أن يكون مؤمنًا به كعقوبة؟

في أحد مشاهد الفيلم أثناء إعدام ديل واحتراق جسده بشدة، خاف الجمهور وهرعوا إلى الخارج، والاستنتاج من هذا المشهد هو التالي: كيف يمكن لمن لا يستطيع تحمل رؤية الإعدام أن يكون مؤمنًا به كعقوبة؟ أليس هذا تناقضًا بين القول والفعل! أليس من باب الانسجام أن يكون من يؤيد عقوبة الإعدام قادرًا على رؤيتها وتحملها وتنفيذها باعتبارها رغبة متوافقة مع وجوده وممارسة طبيعية وعادية. إن كانت مشاهدة الإعدام قاسية بالنسبة لإنسان ما فلماذا يبررها؟

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "The Reader".. القراءة مقابل الجنس

الإعدام يقلب المعادلات. يحول الجلاد إلى ضحية، ومن طالب بتنفيذ الإعدام تنتابه مشاعر من الكآبة الوجودية إذ يسائل نفسه حول صوابية قراره. مشاهدة الإعدام المباشر تتطلب قلبًا من حجر وتكمن ذروة المأساة فيما لو كان المحكوم بالإعدام بريئًا!

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "Wonder".. الوعي الطفولي في مواجهة الاختلاف

وثائقي "عن الآباء والأبناء".. أربعة تقسيم عشرة يساوي خمسة