28-فبراير-2019

من الفيلم (IMDB)

أوّل ما سوف نقع عليه في الشريط، هو مكان مهجور؛ مهجور لأنّه لا يصلح في الأساس مسكنًا للبشر. ومنه، ينطلق شريط المخرج الإيراني أصغر فرهادي "الكل يعلم" (إنتاج 2018)، وسط قرعٍ مستمرّ لأجراس كنيسةٍ بلا هوادة، يتزامن مع دقّات متسارعة لعقارب مجموعةٍ من الساعات أعلى الكنيسة.

يُباغت أصغر فرهادي المتفرّج، ولا يترك له فرصة لتكوين انطباعٍ مبكّر عن أحداث "الكل يعلم"

مشهد سريع، يجمع كلّ ما سبق في آن معًا، أي العناصر البصرية الثلاثة التي يعتمد عليها المخرج الإيرانيّ لا في افتتاح فيلمه فقط، بل في العمل على إنجاح المرحلة الأولى من عملية إثارة حيرة المتفرّج، وشدّ انتباهه إلى أقصى درجة. ذلك أنّ مشهدًا افتتاحيًا كهذا يُساعد المتفرّج في تكوين انطباعٍ أوّليّ سريعٍ عن الشريط، سرعان ما يتبدّد ليحلّ مكانه انطباع آخر، يتبدّد بدوره. هكذا يُباغت فرهادي المتفرّج، أو لا يترك له أي فرصة لتكوين انطباعٍ مبكّر عن الشريط.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "آيات النسيان".. بلاد سكّانها صامتون

المكان المهجور أعلى الكنيسة، وسط بلدةٍ اسبانية صغيرة، خزّان حكايات كبير يختزل صراعاتٍ طبقية وأسرية متعددّة، وقصص حبٍ فاشلة بفعل الصراعات السابقة، أو قصّة واحدة تُغلق ليُعاد فتحها من جديد، وبقوّة أكثر في كلّ مرّة، بحيث تفقد معناها كذكرى، بعد أن تترسّخ في الممارسات اليومية لشخصيات الشريط، وتتداخل مع يومياتهم، وكلّ ما يفعلون كذلك. إنّها قصّة مستمرّة الحدوث وإن غاب أبطالها. وهي مسؤولة عن زعزعة ونسف استقرار العائلة، في كلّ مرّة يخيّل لبعض أفرادها أنّها طُويت مع مرور الزمن.

EVERYBODY KNOWS

يستمرّ قرع الأجراس بينما تتجوّل الكاميرا أعلى الكنيسة، ثمّ يخفّ شيئًا فشيئًا إلى أن يغيب مع انتقال الكاميرا إلى مشهدٍ آخر يُبدّد الانطباعات التي من الممكن أن يكون المتفرّج قد خرج بها من مشهد الافتتاح. هناك، في المشهد الثاني، سيارة في طريقها إلى البلدة، تقلّ امرأة قادمة من الأرجنتين برفقة أبنائها لحضور حفل زفاف شقيقتها، في مسقط راسها. تتنقّل الكاميرا بين الأم وأبنائها، وتأخذ لقطاتٍ سريعة للمحيط، مشكّلةً نوعًا من الطمأنينة في داخل المتفرّج. فما نراه هو مساحاتٍ كبيرة مزروعة بالعنب، وبلدة صغيرة بنمطٍ معمّاري يلفتُ الانتباه، وحميمية واضحة بين الشخصيات التي تشكّل في الأساس عائلةً واحدة.

بالانتقال من مشهدٍ إلى آخر، ننتقل مع أصغر فرهادي من نبرةٍ سرديةٍ إلى أخرى، أو من مستوىً إلى آخر. لا يركن المخرج الإيراني إلى نمطٍ أو أسلوبٍ معيّن، ومن غير الصائب أن يفعل ذلك، ألّا يتلاعب بهذه النبرة المرتفعة تارةً، والمنخفضة تارةً أخرى، لتُحافظ على مناخ العمل. هكذا ترتفع وتيرة السرد وتأخذ شكلًا سريعًا ما إن تصل السيارة إلى منزل العائلة، سُرعان ما تعود لتنخفض، فيقتصر الأمر على حواراتٍ ولقاءاتٍ بين أفراد العائلة والأصدقاء، ولاورا "بينلوبي كروز". ولكنّ اللقاء الأهمّ كان لقائها بباكو "خافيير باردم" حبيبها السابق.

في "الكل يعلم"، يتلاعب المخرج أصغر فرهادي بإيقاع الفيلم كما لو أنه قطعة موسيقية

نعرف أنّ باكو العشيق السابق للاورا من خلال نقشٍ لأول حرف من اسميهما في المكان المهجور الذي افتُتح الشريط السينمائي فيه، تكتشفه إيرين" ابنه لاورا. لا تفاصيل أكثر، ولا تبدو قصّة الحب هذه للوهلة الأولى مثيرةً للمتاعب. ومن اللقاءات ننتقل إلى حفل الزفاف الذي يُلغي بحميمته ومشاهده أي قلقٍ عند المتفرّج إزاء ما يتلو حدثًا كهذا. ولكنّ الحفل كان البداية، فاختطفت ايرين بينما كان الجمع منشغلين بالرقص، وتبدّد استقرار وسعادة العائلة بهذا الحدث الذي أعاد بدوره سرد حكايات قديمة تتصلّ بمكانٍ ما بعملية الاختطاف. نعرف أنّ والدي باكو كانوا خدمًا عند والدة لاورا سابقًا. ونعرّف أنّ والد لاورا رهن أرضًا وخسرها في لعب الورق. وأن لاورا باعت أرضها إلى باكو بسعرٍ زهيد لأنّها كانت تحتاج إلى المال. أسرار كثيرة تطفو على مضضٍ إلى السطح.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "The Reader".. القراءة مقابل الجنس

تتحوّل قصّة الحب إلى الفعل أو العنصر الذي يقود العائلة إلى أن تسلك طرقًا مختلفة، بمنعطفاتٍ حادّة. فالجميع يشكّ بالجميع بمسألة الاختطاف. في الوقت الذي يعرف فيه باكو أنّ ايرين هي ابنته، فيضطّر لأن يبيع حصّته في معمل النبيذ لأجل دفع الفدية، دون أن ينتهي الأمر عند هذا الحد.

اقرأ/ي أيضًا:

لارس فون ترير.. شاشة العُقد الجنسية

فيلم "Green Book".. دليلك لاكتشاف ذاتك بالآخرين