08-مارس-2017

لقطة من الفيلم

على هامش إحدى الضواحي الباريسية التي لم تغب كثيرًا عن أجواء أفلامٍ اجتماعية تزخر بها موجة فرنسية جديدة يُنبه لها دائمًا من خلال هامش آخر أيضًا، ألا وهي تقاطعات خيوط حياة مجموعة من الأشخاص قابعين على طرف الحياة نفسها، فيلم ديفين، أو إلهيات بالفرنسية، يعبر بين ثقوب بيوتٍ صغيرة على طرف الهامش نفسه، يمرر أمامنا حكاية الشابة الصغيرة دنيا عربية الأصل وصديقتها ميمونة ذات الأصل الأفريقي.

يبدو لوهلة هذا التعريف كافيًا للتكهن بحدة تجربةٍ ما في مكان خاص أشد الخصوصية تجري فيه أحداث قصة كبيرة على أبطالها، ولكن حجم الاضطهاد والعوز الذي أوصل الأبطال إلى ما وصلوا إليه يضعك أمام تمارين وأسئلة اجتماعية بحتة حول أمكنة وأزمنة لم يمر عليها حكم أو قانون في بلادٍ كل ما فيها يسير على شفرة القانون الحادة باستثناءات عجيبة.

يُبنى فيلم Divines على الروابط بين خليط من الفضاءات وعلاقتها بالحكاية، والتي تُبنى عليها عناصر شفافة في قلب فوضى التحدي والتمرد

إذًا دنيا وميمونة شابتان طموحتان حالمتان، يمكنهما فعل أي شيء لتحقيق نفسيهما، تسرقنّ بعض الأطعمة من أحد المتاجر لبيعها، وتُثرنّ المشاكل في المدرسة، وهكذا في خطةٍ لكسر كل مألوف في الحياة وتحطيم كل نمطية عيش جاءت بها العشوائيات، إلى أن يأتي الوقت الذي تتعاهدنّ به مع الشيطان، من خلال ريبيكا تاجرة المخدرات التي توظف الفتاتين لصالحها.

تعتمد على دنيا لأنها أقوى وأمرن، تطلب منها سرقة الأموال والمخدرات، تعمل معها وكأنها مساعد شخصي، وبالتالي تجر معها صديقتها ميمونة التي تتحرك بكل براءة ولطف وراء صديقتها مدفوعةً بكل صدقٍ للبقاء معها وحمايتها.

اقرأ/ي أيضًا: أكيرا كوروساوا: لنرسم الفيلم (4-5)

فضاءات عشوائية
بين الجامع والملهى والكثير من الفسحات الضيقة بين بيوتٍ لا نسق لها ولا شكل، كأحياء صفيحٍ مهمل، يُبنى الفيلم على رسم الروابط بين ذلك الخليط من الفضاءات فيما بينها بالعلاقة مع الحكاية. والتي تُبنى عليها أيضًا عناصر شفافة في قلب فوضى التحدي والتمرد التي تلف تجربة الفتاتين.

من خلال مراقبة تمارين إحدى فرق الرقص، تُعجب دنيا بأحد الراقصين والذي يحاول مرارًا تنفيذ وإتقان ما يجب تقديمه من حركات راقصة، يعمل كحارس في المتجر الذي تتردد عليه الفتاتان، يقع في حب دنيا دون أن يعرف اسمها، لتنشأ علاقة الهوامش تلك.

أشخاص بوظائف كثيرة وآخرين بوظائف كبيرة عليهم، ليعكس شغف الراقص شغف دنيا وحبها للحياة وتجميع الأموال، ريثما أقنعت نفسها بأنه شغفها وصارت تدور حوله، رغم وجودها في مكانٍ غير مناسب، واختيارها لعوالم أنهكتها، كل تلك الشفافية البادية في لحظات اللقاء والمراقبة من مكانٍ عالٍ في قاعة المسرح، تتسرب إلى الخارج بشكلٍ أعنف وأكثر مباشرة.

اقرأ/ي أيضًا: نجوم أبيض وأسود.. حكايات من زمن فات

كما وتنسحب تلك الشفافية على علاقة دنيا وميمونة وبالعكس، حب وصداقة وتبنٍّ، كل شيء مقسوم بينهما، لحظات الفرح والحزن والأخطاء. يتشاركان الأحلام كما المآسي. هما نتاج بنية وحدة متماثلة تنتج أشخاصًا وطاقات شغوفة تسعى لتحقيق نفسها بكل الطرق اللاممكنة واللامنطقية نتيجة فقر الواقع الذي وسخه المكان وطغى عليه البؤس.

فيلم Divines هو رؤية للعالم تخصها المخرجة هدى بنيامينا بأول أفلامها، والحائز على جائزة الكاميرا الذهبية بمهرجان كان العام الفائت

يذكرني الفيلم بعبارة وردت في فيلم عار "shame" للمخرج ستيفن ماكوين، عندما تقول الأخت لأخيها، "نحن لسنا سيئين ولكن المكان الذي أتينا منه سيئ" وهي خيرُ تجسيد لتلك العلاقة بين المكان والأشخاص، ولم ينته الأمر هنا ليتابعه فيلم ديفين ويزيد عليه صمت رسمي حكومي أمام ما يجري، عندما يتسبب طمع دنيا التي سرقت مال أحدهم بتوصية من ريبكا التي تعمل معها، وعادت وسرقته مرة أخرى عندما هربت به، وللانتقام منها قررت ريبكا احتجاز ميمونة، ما دفع دنيا للعودة بالمال لإنقاذ صديقتها.

وهكذا يحدث شجار بين جميع من في ذلك البيت الصغير الخشبي، يشعلون النار ببعضهم، تلك النار المشتعلة أصلًا في مكان هشيم، لتكون المتضررة الوحيدة من كل ما جرى هي ميمونة التي احترقت مع البيت بعد أن فشلت دنيا بإنقاذها، هذا بعد أن رفض فريق الإطفاء الدخول إلى المكان، لأنه مكان تلعب فيه النار بشكل دائم.

عشوائيات متروكة للنار تأكلها على مهل، تنمو فيها أحلام الصغار وتموت بصمت، هي رؤية للعالم تخصها المخرجة هدى بنيامينا بأول فيلم لها، والحائز على جائزة الكاميرا الذهبية في مهرجان كان العام الفائت، لتقول من خلاله ما صار يصادق عليه كبار المخرجين.

اقرأ/ي أيضًا:
سينما هيتشكوك.. التأسيس لتشويق مبتكر
أفلام كلاسيكية لن تصدق أنها لم تحصل على الأوسكار