20-أغسطس-2021

من الفيلم (IMDB)

يقدم المخرج الإسكتلندي كيفن ماكدونالد في فيلمه "The Mauritanian" قصة الموريتاني محمدو ولد صلاحي الذي اعتقل أربعة عشر عامًا في غوانتنامو بشبهة العلاقة بمنفذي عمليات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر الأمريكية بدون أدلة كافية. وبالاعتماد على المذكرات الشخصية التي نشرها صلاحي عن سجنه في عام 2015، يعرض الفيلم حكاية صلاحي بأسلوب سينمائي مغاير.

يقدم فيلم "The Mauritanian" شخصية محمدو ولد صلاحي كشخصية مرحة ومسلية، بينما تظهر الشخصيات الأمريكية المقابلة له على أنها شخصيات حاقدة وماكرة

يفتتح الفيلم بمشهد حواري في حفل زفاف موريتاني، ونستطلع أن محمدو العائد لتوه من ألمانيا، غير راضٍ تمامًا عن الوتيرة التي تجري بها الحياة الاجتماعية في بلاده. لكن سرعان ما يقطع المشهد اقتحام قوات الأمن المحلية، والتي تقتاد محمدو إلى مخفر الشرطة للتحقيق، فيما سيتضح بعد ذلك أنها مجرد بداية لمحنة أورويلية طويلة تنتهي به إلى غياهب غوانتانامو.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "The United States vs. Billie Holiday".. قصة مشحونة لكن من دون بوصلة

اللافت في هذا المقطع الافتتاحي أنه بعد عودته إلى بلاده يصبح "هومو ساكر" أو الرجل الملعون والمستباح -بالمعنى الأغامبيني، حيث يفقد الوضعية القانونية التي كان يمتلكها عندما كان يعيش في ألمانيا وكندا، وهو ما يفصح، كما يبيّن الباحث الموريتاني عباس ابراهام عن حالة الاستثناء الدولية التي أدخلتها الولايات المتحدة العالم فيما بعد 11 أيلول/سبتمبر، والدور الذي لعبه جهاز الأمني الموريتاني في عهد معاوية ولد الطايع حيال ذلك.

تعود نقطة جذب الفيلم الأساسية على قوة قصة محمدو الواقعية، وساهم من نجاح الفيلم أداء الممثل الجزائري الفرنسي طاهر رحيم الذي أجاد لعب دور صلاحي، وقد رفض أداء أدوار سابقة في هوليوود تكرّس صورًا مسبقة عن المسلم/الإفريقي/العربي. وبالرغم من أن العديد من الأفلام الأمريكية تناولت مسائل اعتقال وتعذيب المشتبه بهم بالإرهاب، لكنها غالبا ما كان الاهتمام يتركز على الشخصيات الأمريكية عبر تصويرهم إما ضحايا يستوجبون التعاطف، أو أبطال خارقين، بينما يظهر الآخرون دومًا على هامش القصة، وعلى شكل ومضات خاطفة؛ أجساد بلا تواريخ وبلا قصص شخصية.

يقترب هذا الفيلم الخروج من هذا التقليد الهوليودي الرسمي، ورغم أنه لا يسعى إلى تبرئة ولد صلاحي، لكنه يقلب المعادلة الهوليودية تجاه المهتمين بالإرهاب من ناحية رسم أدوار الشخصيات؛ فيتم تقديم شخصية محمدو كشخصية مرحة ومسلية، ويحتفظ بحسه الودود في معظم الأحيان، بينما تظهر الشخصيات الأمريكية المقابلة له على أنها شخصيات حاقدة وماكرة، ويتجسد هذا بالأخص في دور الكولونيل ستيوارت كوتش (بيندكت كامبرباتش) الذي يسعى إلى إعدامه بأي ثمن، رغم عدم وجود أدلة كافية تدينه.

فعلى سبيل المثال، وفي أحد مشاهد الفيلم، ينصح أحد الضباط أثناء زيارة المحامية نانسي هولاندر (جودي فوستر) للمعتقل بأن ترتدي حجابًا عندما تقابله، خشية أن يهاجه، وعلى ما تستبطن هذه الرؤية من صورة سلبية عن همجية "المسلم الإرهابي"، إلا أنه سيبادلها العناق، ويتحدث معها عن الشاي الموريتاني (الآتاي)، وهو ما يشكل علاقة إنسانية بينهما. وتواجه المحامية بدورها معضلة من نوع خاص، فالدفاع في داخل أمريكا عن شخص مهتم بالإرهاب ليس بالأمر السهل. لكن سيلاحظ المشاهد، أن دور المحامية نانسي نفسه لا يخلو من لعب دور "المنقذ الأبيض"، ويتم التعبير عن هذه الفكرة من خلال إبراز دورها وتصويرها بألوان وإضاءة أكثر قوة في العديد من المشاهد، وكذا ينصرف النقاش إلى التأكيد على أهمية الحفاظ على القانون الأمريكي، وعظمته، ويتزايد هذا الإحساس، عندما ننظر إلى توقيت صدور الفيلم، الذي تزامن في أواخر فترة دونالد ترامب، والنقاشات التي شهدتها الولايات المتحدة عن مكانة القانون الأمريكي تحت إدارة ترامب، وبالفعل أحرزت جودي فوستر عن أدائها هذا الدور جائزة غولدن غلوب لأفضل ممثلة مساعدة.

من أفضل المشاهد التي ينجح فيلم "The Mauritanian" في تقديمها بشكل بارع، هي لقطات التعذيب القاسية التي تعرض لها بطل القصة، حيث مشاهد التعذيب أشبه بلوحات سوداوية متحركة

من أفضل المشاهد التي ينجح الفيلم تقديمها سينمائيًا بشكل بارع، هي لقطات التعذيب القاسية التي تعرض لها بطل القصة، حيث مشاهد التعذيب أشبه بلوحات سوداوية متحركة، ومن خلال استخدام المؤثرات الصوتية والبصرية يمتزج الواقع بالأحلام والهذيانات، ويختلط الوعي بعدم الوعي نتيجة التعذيب، ويستحضر الضحية مشاهد وصور ذهنية من حياته السابقة، ومكانه الذي اقتلع منه؛ يتخيل وهو يعلب الكرة في شاطئ البحر، أو وجه والدته. وكل هذا يختزل دلالات شديدة الأهمية عن كيف أن العلاقة الوجدانية التي تربطه بحياته السابقة في موريتانيا تنقذه في أحلك الظروف.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "Judas and the Black Messiah".. قصة القائد الكاريزماتي يرويها مُخبر

لكن المشاهد الأكثر قوة ترد في نهاية الفيلم، حيث يقدم مرافعة قوية ضد النظام القضائي الأمريكي، وبالرغم من أن المحكمة قررت إخلاء سبيله في عام 2010، إلا أن إدارة اوباما أخذت استئنافًا عن الحكم، وأبقته في السجن لغاية 2016، وبعد خروجه ظل ممنوعًا من السفر إلى خارج بلاده حتى أواخر 2019. ورغم كل هذا يقرر العفو عن بلاده والولايات المتحدة التي حسبته وعذبته لطيلة 14 عامًا من دون اتهام أو اعتذار.

يختتم الفيلم بمشاهد حقيقية عن لحظات إفراج صلاحي من السجن وعودته إلى بلاده، تترافق معها الأغنية الموريتانية "صلاة ربي" للفنانة معلومة بنت الميداح. وتضيف هنا موسيقى وكلمات الأغنية بالمشهد بشعور مفعم ومؤثر. وينتقل من ذلك إلى مشاهد أخرى وهو يتفصح ترجمات بلغات مختلفة لمذكراته التي اقتبس منه الفيلم، وثمة صفحات كثيرة ملونة بخطوط سوداء، ولعل المخرج أراد أن يشير إلى جوانب القصة التي حجبتها الرقابة في وقت نشر الكتاب. وينتهي الفيلم بأغنية بوب ديلان "The man in me"، وصلاحي يغني معها، وهو يشعر برضا خاص عن نفسه.

يفصح هذا الفيلم قصة واحدة من مئات المستباحين الذين قضوا حياتهم في غياهب غوانتانامو، دون أن يُعرف تفاصيل ماذا حدث معهم. وأراد صلاحي كشخصية مشاركة في النقاشات العمومية لضحايا مثل تلك الاعتقالات، توثيق قصته الإنسانية، وتقديم نموذج للغفران والانتصار الروحي على مثل هذه الظروف، ويتضح ذلك من حواراته اللاحقة والعلاقة الإنسانية التي بناها مع حارس السجن السابق، ستيف وود، الذي أصبح صديقه ويزوره في موريتانيا باستمرار. مما يعطي قصته أبعادًا إنسانية تستحق التأمل. باختصار، يروي الفيلم قصة "الضحايا المهتمين بالإرهاب" بطريقة مغايرة عن سرديات هوليود المستهلكة، ويستمد الجزء الأكبر من براعته من استثنائية وقوة قصة صلاحي نفسها.

اقرأ/ي أيضًا:

في تفوق السينما

سجون أمريكا.. فضيحة الديمقراطية