16-أبريل-2023
فيلم Coco

من الفيلم

لا أشك أن كل واحد منا قد فكر يومًا بالموت على طريقته الخاصة، وربما ترك نفسه لخيالاته ترسم له مصير ما بعد الحياة بطريقة مغايرة عما تحدده الأيديولوجيات، على اختلافها، بكلِّ دقةٍ ووضوح وصرامة. ربما أراد بعضنا أن يفكر به بطريقة أقل سديمية ووحشة وأكثر اتصالًا بالحياة من الانقطاع التام عنها؛ ماذا لو أردت أن تكون في حياتك بعد الموت شجرة كستناء باسقة في شارع باريسي صاخب؟ أو شعاع شمس يجوب العالم كل يوم بخفة وانسيابية؟ ماذا لو كان الموت حدثًا سحريًا يتيح لك أن تعود بالزمن الى حقبة كنت تشعر في حياتك أنك تنتمي إليها، ماذا لو منحك الموت هذه الفرصة؟ بالنسبة لي كنت لأختار بغداد الحلاج أو غموض وعمق حقبة الغرب الأمريكي.

كل واحد منا قد فكر يومًا بالموت على طريقته الخاصة، وربما ترك نفسه لخيالاته ترسم له مصير ما بعد الحياة بطريقة مغايرة عما تحدده الأيديولوجيات

إن التفكير بالموت بهذه الطريقة يجعله مفعمًا بالشعر والموسيقى، يكسر أغلاله الأيدولوجية ويطلقه في فضاءات المخيلة، فيصبح نديمًا دمثًا خفيف الظل للحياة، ويحيل تلك الحتمية السوداوية للوجود ومعناه إلى فرصة ثانية، ربما أكثر انطلاقا وحيوية، خاصة أن المخيلة بشكل عام متمرسة على تلقي موضوعة الموت ضمن أطر محددة إن كان على مستوى الشكل أو على مستوى المضمون، ففي السينما بمفهومها الروائي الدرامي يتم الخوض في فلسفة الموت عبر رفضه بالمطلق منذ البداية، والتشبث بالحياة بشكلها الاعتيادي اليومي المعاش، بصداماتها وغليانها بالتفاصيل العادية، وبذلك تستخدم السينما الحياة بأدق تفاصيلها حميمية لشرح معضلة الموت وإظهار قسوته ولامعقوليته.

ويمكن ملاحظة ذلك بقوة في أفلام هزت الوجدان البشري لقوتها مثل "The Others" أو "The Sixth Sense"، وحتى في إنتاجات سينما الرسوم المتحركة ظلّت الصورة مخلصة لهيبة ورهبة عالم الموتى، وبقي البناء البصري الجمالي متمسكًا باللون الأزرق والفضي البارد للمقابر والنعوش والشخصيات لتصوير وتجسيم عزلة الموت في مقابل الألوان الدافئة للشخصيات الحية.

كيف نجحت شركة ديزني العملاقة في كسر هذه الصورة الأزلية لموضوعة الموت، والاشتغال على فلسفة الموت وما بعد الحياة بهذه الشعرية والشاعرية الموسيقية الأخاذة؟

لم تكن شركة والت ديزني من الشركات المنغلقة على نوع محدد من القصص الشعبية والحكايات العالمية، بل إنها ضربت شرقًا وغربًا وانتقت واصطفت بعناية نصوصها الأدبية التي أخرجت منها أفلامها للرسوم المتحركة، الجديد في الأمر أنها بدأت بالبحث الجدي والعملياتي في الموروث الشعبي، لاستخلاص قصص سينمائية تحمل معايير وشخصية شركة ديزني وفي نفس الوقت تضع البيئة الشعبية للحكاية خارج الأطر النمطية والانطباعات السريعة الجاهزة حول الثقافة الشعبية لبيئة الحكاية.

وهذا ما سيلحظه المرء عند مشاهدة فيلم "كوكو"، المنتج عام 2017، إذ يبني الفيلم حكايته كلها على طقس شعبي مكسيكي يسمى "يوم الموتى" يخرج فيه الأحياء إلى المقابر محملين بسلال الطعام المفضل لموتاهم، والكثير الكثير من زهور القطيفة، يتكئ الفيلم على هذا التفصيل البسيط ثم يشرع في نسج حكايته الفلسفية عن الموت، عبر الفتى الصغير ميغيل الذي يعيش وسط عائلة مترابطة جدًا لكنها تحظر عزف أو سماع الموسيقى، لكن أحلام الفتى الصغير بأن يصبح موسيقيًا عظيمًا مثل دي لا كروز، أشهر مغني شعبي، توقعه في المتاعب.

بسبب سعيه وراء حلمه الموسيقي، يدخل متحف المغني الشهير ويسرق غيتاره، ولأن دي لا كروز مغن عظيم جعله هذا يكتسب شيئًا من القداسة، فيعاقب ميغيل الصغير على السرقة بالنفي إلى عالم الموتى، وهنا تكمن المفارقة التي تحدثها ديزني على مستوى المعالجة البصرية والتخييل الجمالي لهذا العالم، وتبديد التصورات المعتادة حول عوالم ما بعد الحياة، إذ تنفتح الأحداث على عالم صاخب بالألوان والموسيقى والحيوية، عالم نابض بأثر الحياة بمفهومها الواقعي والمتمايزة عنها باشتمالها على كائنات أسطورية تجوب عالم الموتى، حيوانات البشر الأليفة في عالم الأحياء مسها سحر الموت فاستحالت كائنات خرافية، ولن يبدو هذا شططًا في الخيال وإنما تخييل واقتراح جمالي في المآلات منطلقًا من مفردات غاية في الحياتية. وربما تكمن الفرادة بأن تستعمل الفلسفة لتطويع الخيال ليبدو العالم المتخيل ممكنًا وقابلًا للحدوث، فيبدو عالم الموتى وفق هذه المعالجة امتدادًا شاعريًا للحياة نفسها وليس نقيضًا لها، فحياة الأموات مستمرة بقوة الذاكرة والسحر معًا.

بالعودة الى قصة الفيلم، يلتقي الطفل ميغيل بأجداده كلهم وتنشأ بينه وبين شخصية غاية في الروعة وقوة الصنعة اسمه هيكتور، ومع تسارع الأحداث في عالم الموتى يكتشف ميغيل الصغير أن جده الحقيقي ليس دي لا كروز، وإنما هيكتور البائس والشبه منفي في عالم الموتى، وأن دي لا كروز قام بقتل هيكتور وسرقة ألحانه وأغانيه، وحصل على كل هذا المجد والشهرة. بينما ظنت عائلة هيكتور أنه هجر زوجته وابنته كوكو التي صارت جدة عجوز بعمر مائة وتسعة أعوام بسبب شغفه بالموسيقى.

يبني فيلم "كوكو" حكايته كلها على طقس شعبي مكسيكي يسمى "يوم الموتى"، إذ يخرج فيه الأحياء إلى المقابر محملين بسلال الطعام المفضل لموتاهم

تمثل ذروة الحدث الدرامي في الفيلم عمق البحث الفلسفي في موضوعة الموت وفرادته في آن معًا. إذ أن الاتصال بين عالمي الأموات والأحياء تغذيه ذكريات الأحياء عن موتاهم، وما من سبيل للموتى كي يعبروا جسر زهور القطيفة إلى عالم الاحياء إلا بوجود حي يتذكرهم ويوقد لهم شمعة. فالمغني القاتل يعيش في قصر مهيب في عالم الأموات، كيف لا وهو معشوق المكسيك كلها، وذكراه في الحياة لم تنقطع. بينما يجاهد المسكين هيكتور كل عام لعبور الجسر ولقاء ابنته كوكو ولا ينجح، وابنته ذات المائة والتسع أعوام والمصابة بالزهايمر هي أمله الوحيد بألا يتلاشى في عالم الأموات ويصبح غبار طلع القطيفة.

وعلى الرغم من أن الفيلم يعرف على أنه فيلم موسيقيّ، وعلى الرغم من حصوله على جائزة أوسكار وجائزة البافتا وفق هذا التصنيف، إلا أنني أعتقد أن الموسيقى كانت بمثابة حامل شاعري لتصور فلسفي نادر الطرح في وسائل التعبير الفني يرسم هذا التصور نظرته للحياة، من خلال فهم أكثر لطفًا وشجاعة للموت، وبترميز يجاوز حدود البشر ويشتمل على كل ما هو حي نابض. ووفق هذا المنطق تنتزع الوحشة وتحل السكينة في العالمين لا وحشة في الفقد ولا وحشة في عالم لم يعد مجهولًا ولا غامضًا، ويصبح فيه معنى الموت قائمًا على مفاهيم الحياة نفسها. وبهذا المنطق يصبح الخوف والنسيان هما الطريق الى العدمية.

إن دخول شركة ديزني في هذا الميدان الفلسفي واستمرارها في تقديم موضوعات تخدم ذات السياق يشير الى أن عقليتها تتوجه نحو التأثير لا صناعة الترفيه فقط، فلقد أتبعت فيلمها كوكو بفيلم آخر يستند الى ذات الحوامل الفلسفية لثيمة الموت بأسلوب وطريقة طرح مختلفة كليًا وهو فيلم "سول" (الروح) المنتج عام 2020، لكنها هذه المرة حسبما أعتقد استندت إلى موروث شعبي شرقي يفسر مآل الأرواح بعد الموت. يصف هذا الموروث عالمًا برزخيًّا تتمركز فيه هيولى بلا أبعاد ولا ملامح، تكوين ضوئي هائل يستقبل الأرواح من رحلتها النهائية ويطلق الأرواح الوليدة الجديدة إلى العالم، وكلا الصنفين الروحيين ينتميان بالتكوين والهيئة إلى ذات الهيولى.

هذا الفيلم يتحدث عن مدرس موسيقي شغوف بموسيقى الجاز يلقى حتفه في اللحظة التي تبتسم فيها الحياة له، وينجح بالانضمام إلى رباعية جاز شهيرة في نيويورك. يرفض المدرس الموت ويبدأ محاولات استعادة حياته وخلال هذا يكتشف أنه اختزل حياته بفكرة واحدة، وبأنه لم يكن حيًا حقًا. وهنا أيضًا تظهر موسيقى الجاز في الفيلم كحامل لموضوع فلسفي عميق بنسق مختلف ومعالجة بصرية جديدة كليًا، يستغنى فيه عن الجسد البشري وتطلق فيه الأرواح كخطوط و"موتيفات" انطباعية، تسبح في عالم كاريكاتوري شفاف وبسيط يمحو ثقل العدم ويخفف من وطأة غموضه ورهبته، يلتقي فيلم "سول" مع فيلم "كوكو" في عمق البحث الفلسفي في موضوعة الموت، ويفترق عنه ويمعن في الافتراق على مستوى المعالجة البصرية وأسلوب الطرح والبناء الدرامي.

تشرك هذه التجارب السينمائية شركة ديزني، أرادت أم لم ترد، في عمق النقاش المحتدم في هوليوود حول تآكل الموضوع والشخصية السينمائية في السينما لصالح عالم الأبطال الخارقين، وما ينطوي عليه هذا العالم من استخدام مفرط لتقنيات الإمتاع البصري على حساب الموضوع والشخصية السينمائية. هذا النقاش الذي تحول إلى صدامات سينمائية حقيقية وقف في طليعتها مخرجون وكتاب ومنتجون اتهموا فيها الشركات المنافسة لإستوديوهات هوليوود بتسطيح الترفيه وتسليعه بصورة متطرفة، وبدأوا بإنتاج أفلام الميزانيات المنخفضة كشكل من أشكال الانتصار للشخصية والموضوع السينمائي، وربما اتخذت ديزني عبر هذين الفيلمين موقفها من هذا الجدل بخلق توازن ما بين التأثير والترفيه.