29-مارس-2022
من الفيلم

من الفيلم

"الدائرة الكاملة" (1997) للمخرج البوسني أديمير كينوفتش (1950)، فيلمٌ ينهك من يشاهده لفرط ما يحمله من ألمٍ ومرارة يؤطران أحداث قصته، التي تجري في مدينة سراييفو خلال الحرب البوسنية. اللافت أن الفيلم لا يؤسس هذين الشعورين، ويبثهما باتجاه المشاهد، استنادًا إلى لقطاتٍ مريعة، وإنما إلى مفارقاتٍ مؤلمة تنتهي إليها مصائر شخصياته، التي تحاول النجاة عبثًا.

"الدائرة الكاملة" ليست عنوان الفيلم فقط، بل الطريقة التي تُروى بها قصته التي تسلك أحداثها مساراتٍ دائرية تنتهي، بفعلها، من حيث بدأت

الانهاك الذي يُصاب به المشاهد يبدو موضوعًا رئيسيًا في فيلم أديمير كينوفتش، الذي لا نرى فيه أكثر من بشرٍ أنهكتهم الحرب ومحاولاتهم المستمرة للنجاة منها، ومما يترتب عليها من عطشٍ وجوعٍ وذلٍ وبردٍ وخوف. هنا بالضبط تتجلى فرادة الفيلم، الذي يتضح في نهايته أن "الدائرة الكاملة" ليست عنوانه فقط، بل الطريقة التي تُروى بها قصته التي تسلك أحداثها مساراتٍ دائرية تنتهي، بفعلها، من حيث بدأت.

للدائرة في فيلم كينوفتش مظاهر، ووظائف، متعددة ومتشعبة. بعضها يحضر واضحًا ومباشرًا – دوائر يرسمها بطل الفيلم، حمزة، ليمرن يده – وبعضها الآخر يأتي، ويتكرر على مدار الفيلم، بصورة غير مباشرة لكنها محملة بتساؤلاتٍ لا تنضب، ومنها المشنقة الذي يرى حمزة، في نومه ويقظته، أنه يتدلى منها.

YT Banner

لكن هذه الدوائر لا تبدو، برغم معانيها، أساس عنوان الفيلم ومضمونه. بل إنها لا تبدو أكثر من محاولاتٍ لصرف النظر عن الدائرة التي يحيل إليها بصفتها أسلوبًا وليس شكلًا. بل بوصفها المسار الذي تسلكه شخصيات الفيلم، بغير إرادتها، باتجاه مصيرها الذي ظنت، وظننا معها أيضًا، بأنها نجت منه في مطلعه. إنها ما يفسّر، في الوقت نفسه، أن يكون المشهد الذي افتُتح به الفيلم، مقبرة ضخمة لدرجة أنها لم تعد قادرة على استيعاب المزيد من الجثث، هو المشهد الذي اختُتمَ به.

لا يمكن لمسار حياة الفرد أن يكون دائريًا، على هذا النحو، دون حرب. أو هذا على الأقل ما يقوله الفيلم، الذي نرى في مطلعه رجلًا يتدلى من حبل مشنقة عُلّق على شجرة وسط مقبرةٍ ضخمة. سنعرف، فيما بعد، أن هذا الرجل ليس إلا حمزة، بطل الفيلم. وأن ما رأيناه ليس أكثر من حلمٍ يطارده، في يقظته ونومه، منذ بداية الحرب.

"الدائرة الكاملة" هو إذًا قصة حمزة الذي يرفض، لأسبابٍ لا نعرفها ولا يبوح بها، مغادرة سراييفو حتى بعد سفر زوجته وابنته وبقائه وحيدًا. لكنه أيضًا قصة الأخوين أديس وكريم، وهما طفلان استطاعا النجاة من مذبحةٍ ارتكبها الصرب، وقُتل فيها جميع أفراد عائلتهما ومعظم سكان بلدتهما التي غادراها باتجاه سراييفو، حيث قادتهما خطواتهما إلى بيت حمزة.

أعاد الطفلان إلى حمزة، حين ظهرا في بيته، مخاوفه وهواجسه ومشاعره المضطربة التي ظن أنه تخلص منها بعد سفر زوجته وابنته إلى مكانٍ آمن. الأحرى أنهما جعلا منه أبًا للمرة الثانية في حياته، ولكن في ظروفٍ قاسية يتوجب عليه في ظلها أن يضمن نجاتهما. لذا، يبدأ البحث عن عمتهما التي هي أخر من تبقى لهما. وما إن يكتشف بأنها غادرت البوسنة باتجاه ألمانيا، حتى يبدأ البحث عن طريقةٍ لإرسالهما إليها.

يُنهك فيلم "الدائرة الكاملة" من يشاهده لفرط ما يحمله من ألمٍ ومرارة يؤطران أحداث قصته التي تجري في سراييفو خلال الحرب البوسنية

لكن حمزة يدرك بأن أمر سفرهما ليس سهلًا، ذلك أن الوصول إلى المطار يتطلب المرور من حيٍ يقع تحت سيطرة الميليشيات الصربية. هنا، يتطوع أحد أصدقائه الصرب لإيصال الطفلين إلى المطار. وبعد حفلة وداعٍ أقامها سكان البناية التي يعيش فيها حمزة، ينطلق الأخير برفقة الطفلين وصديقه الصربي في رحلتهما التي ستنتهي في ذلك الحي، حيث يكتشف مقاتلان صربيان أمرهم فيقومان، أولًا، بإعدام صديق حمزة، ثم يدخلان إلى البناية التي لجأ إليها الأخير. وحين يوشك أحدهما على كشف أمره، يظهر كريم فجأة ويقوم بضربه، ثم يطلق النار من سلاحه على الجندي الآخر. يسأله حمزة حينها عن أديس، فيرافقه إلى مكان جثته.

الدائرة التي يحيل إليها عنوان فيلم أديمير كينوفتش، اكتملت لحظة مقتل أديس وتحوّل كريم إلى قاتل. ينطبق هذا أيضًا على حمزة الذي ظن أنه نجا من اختبار مشاعر الفقد والعجز وقلة الحيلة بعد سفر زوجته وابنته. لكنه سرعان ما خبرها لحظة وفاة أديس الذي قام كريم بكتابة اسمه على شاهدة قبره، ثم أحاطه بدائرةٍ مكتملة.